الكنيسة المارونيّة أنجَبَت “لبنان الكبير” قبل ماية عام. أعطَتِ الحياة لطفلٍ وسيمٍ طيّب القلب وذكيٍّ، لكنّه أيضاً ولدٌ صعب المراس وانفعالي، تعمل عاطفتُه بسرعة أكبر من سرعة ذهنه.
ومرّت الأيّام، ترهّل فيها الولد قبل أن يشيخ، فما هي مئة سنةٍ في عمر الأوطان! حاول كثيرون، لبنانيّون وعرب وأجانب، أن يساعدوا لبنان على تجنّب الترهّل، لكن لا البوتوكس محا آثار الحساسيّات الطائفيّة، ولا شدّ البطن أقفل شهيّة الكبار على السرقة، ولا تصغير الردفَيْن مَوضَع اللبنانيّين في وطنٍ “نهائيٍّ” توافقوا عليه في الطائف، ولا تكبير الصدرِ كبّر محبّة الوطن.
“لبنان الكبير”، وليد بكركي، بات على مفترق طرق. ما العمل؟ في رأيي، بكركي مدعوّة إلى المبادرة، مع تحفّظي على تورُّط الكنيسة في الطروحات السياسيّة. في المسيحيّة، فإنّ فصل الدين عن الدولة أمرٌ واضحٌ ونهائي: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. هذه المقولة أصبحَت مفهوماً راسخاً في الغرب، وأتمنّى أن تُصبح هكذا في بلادنا. لكن هذا التمنّي لا يُلغي حتميّة دور الكنيسة كحافظ أدبي وأخلاقي للمجتمع، ومن هذا المنطلق هي تستطيع أن تُبدي رأياً وأكثر.
البطريركيّة المارونيّة أعطَتْ مؤخّراً ثلاثة مواقف: أوّلاً، عندما تساءل البطريرك الراعي عن “المستفيد مِن زعزعة حاكميَّة مصرف لبنان”، وثانياً، عندما طرح البطريرك مبدأ “الحياد الإيجابي”، وثالثاً، عندما قاد البطريرك المسعى لجمع الشمل بين الرئيسين عون والحريري. كُلُّ رأيٍ مُحترم، بغضِّ النظر عن رأيي الشخصي في مسؤوليّة حاكميّة مصرف لبنان في الانهيار النقدي. “الشمس شارقة والناس قاشعة”. وكلُّ مبادرةٍ تأتي من موقعٍ وطني مثل بكركي مُقدّرة، خصوصاً وأنّ بكركي برهَنَت عبر التاريخ أنّها تجمع ولا تُفرّق.
لكنّي أعتقد أنّ الزمن هو للخطوات الكبيرة فقط، وأنّ الكرسيَّ البطريركي مدعوٌّ إلى طرح رؤيةٍ أوسع من مصير “الحاكم”، و”الحياد الإيجابي”، وعقد لقاءٍ بين زعيمين. هي دعوة للعودة إلى البدايات، وماية سنةٍ إلى الوراء، وطرح رؤيا للبنان.
في حالةٍ مثل هذه، تُشَكّل مجموعات تفكير Think Tank، ولجان يتمثّل السياسيّون في واحدةٍ منها فقط، وتعمل من خلالها البطريركيّة على توليد ورقة عمل “مبكّلة” تطرح رؤيا للبنان في السياسة والتربية والاقتصاد والحوكمة والمال والعلاقات الخارجيّة. هذه يضعُها أشخاص مختصّون، مسلمون ومسيحيّون، يعرفون الواقع، غير متوّرطين في عدائيّةٍ مع أي مجموعةٍ لبنانيّة، وليسوا رهينة السياسيّين. هدف حركتهم الفكريّة إنتاج رؤيا للبنان الجديد، لا تعكس أحقاداً، ولا رغبةً في الصدام مع أيّ طرف، ولا تأتي بطروحاتٍ فئويّة. نِتاجُ هذه اللجان يشبه الأوراق الأكاديميّة الجامعيّة. ليأخذ الأمر سنة كاملة، وعندما تتوافر المعطيات لبكركي، يمكنها ساعتئذِ أن تطرحها للنقاش في لبنان وخارجه. ولتذهَب البطريركيّة إلى الشركاء الأصعبين في الداخل أوّلاً، وأصدقاء لبنان في الخارج ثانياً. لا إستعلاء ولا إستغباء ولا إستبعاد ولا تبعيّة لأحد.
بكركي يجب أن “تورِّط” الأطراف كلّها في نقاشات فكريّة. السياسيّون أحبّوا المياه الآسنة وغرقوا فيها. لتأخذهم بكركي إلى مكانٍ آخر، وإذا لزم الأمر، فلتتخطّاهم. لا نريد أن نبقى في السؤال عن الموضوعيّة في إدانة “الحاكم”، ولا أن نقلق إذا اجتمع زعيمان أو لم يجتمعا. ما يهمني الآن هو إنقاذ “لبنان الكبير” من “اللبنانيّين الصغار”. ومن أجدر من بكركي بقيادة هذا المسعى في غياب الدولة؟
سمير قسطنطين