السياسة كالتجارة فيها صعود وهبوط. كانت أُمّي تقول: “التجارة فور وغور”. كذلك السياسة. نادراً ما يحافظ حزبٌ على مستوى شعبيّته لمدّة طويلة. لكنّ الثابت في حركة السياسيّين أنّهم كلّهم يريدون أن يكسبوا. الرِبحُ في البلدان المتقدّمة يتمثّل في استمالة مؤيّدين أكثر للحزب، أو اكتساب نقاطٍ لصالح تمرير مشروع قانونٍ في مجلس النوّاب مثلاً. في لبنان، المكاسب تتعدّى ما ذكَرْتُه لتشملَ توظيفاتٍ للمناصرين في القطاع العام، وتنفيعاتٍ للأزلام في مشاريع تدرّ ملايين الدولارات خارج القانون.
هؤلاء الزعماء يكدّسون الثروات في حساباتهم الخاصّة في أوروبا وأميركا (نصفهم ضدّ إمبرياليّة الغرب في الصحف). الشعب فقير. لا هَم. همُّهم الوحيد الآن هو ألا تتورّط سويسرا وسائر دول أوروبا في كشف المستور. أمّا ما يحدثُ في طرابلس مثلاً، فلا يرى فيه الزعماء إلّا أعمالاً مأجورة. هؤلاء هُم المشاغبون. لا يراهم السياسيّون فقراء، جائعين، أو يائسين. هُم فقط مأجورون. الثائر دائماً رخيص بنظر الأقوياء. أنا لا أقول إنّ المتظاهرين خبراء في مهارات التواصل المحترف، أو قادة في مجال الـ Positive Attitude، لكن أن لا ترى فيهم السلطة إلّا غوغائيّين، فهذا فصلٌ آخر من فصول النكران والهروب إلى الأمام.
المهم هو أنّ الزعماء عندما يكسبون، يربحون لوحدهم. لا يربح الناس معهم. إنتزع التيّار الوطني الحر تمثيلاً أوسع للمسيحيّين في القطاع العام. لكن مَنْ مِنَ المسيحيّين استفاد من ذلك؟ الحزبيّون فقط. وعلى مرّ ثلاثة عقود كسبَت حركة أمل من خلال الرئيس نبيه برّي تعيينات أساسيّة للشيعة في القطاع العام. لكن مَن استفاد عمليّاً من أبناء الطائفة الشيعيّة؟ الحركيّون فقط. حتّى حزب الله بقي لعقدَيْن بعد الطائف في بُعدٍ شبه كامل عن محاصصات القطاع العام. مثلٌ آخر، إتّفاق معراب بين التيّار والقوّات. في الإتّفاق ورد التالي: “يُصار إلى توزيع مراكز الفئة الأولى في الإدارات الرسمية والمؤسسات العامة ومجالس الإدارة العائدة للمسيحيّين، بما فيها المراكز القياديّة الأولى في المؤسسات الرسميّة، ومن ضمنها قيادة الجيش وحاكميّة مصرف لبنان، وبالإتفاق بين الطرفين”. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه بات مستحيلاً على أيِّ مسيحي غير حزبي الحصول على موقعٍ أساسي في الدولة.
لذا أقول إنّ السياسيّين عندما يكسبون، إنّما هُم يكسبون لوحدهم.
المشكلة لا تقف عند هذا الحد بل تذهب إلى ما هو أخطر. المشكلة هي في ما يحصل عندما يخسر السياسي. هل يخسر لوحده، وتقف حدود الخسارة عنده؟ طبعاً لا. المشكلة الفظيعة هي أنّ كلّ الناس يخسرون، عندما يخسر السياسي. في التناحر بين كلِّ أهل الحكم، ولا إستثناء لأحد، إذ الكلّ متورّط في النزاع القائم، من هُم الخاسرون؟ قد يبدو لوهلةٍ أنّ السياسيّين حافظوا على مواقعهم وثرواتهم. لكن في الحقيقة، فَقَدْ خسر هؤلاء الكثير. فقَدوا قدرتَهم على إنتاج حلٍّ للبنان. باتوا بنظر الناس فاشلين. فقدوا الكثير من مصداقيّتهم، ونفوذهم المعنوي، وفوق ذلك كلّه، فقدوا الأمان ما بين غضب الشعب عليهم، وسيف العُزلة الدوليّة ناهيك عن العقوبات. لكن تبقى خسارات الناس كبيرة جدّاً. السياسيّون خسروا لكنّ الشعب خسر كثيراً.
عندما يربح الزعيم يربح لوحده، وعندما يخسر، يخسر كلّ الشعب معه. ثمة مثل أفريقي يقول: “عندما تتصارع الفيلة يموت العُشْبُ”.
سمير قسطنطين