لم تكن يوماً قيمةُ المسيحيّين الحقيقيّة في أعدادهم. الديمغرافيا لم تكن لصالحهم يوماً حتّى عندما شكّلوا خمسةً وخمسين في المئة من سكّان لبنان. عندذاك، كانوا أغلبيّة عدديّة ضئيلة، لكن بالمقارنة مع البحر الهادر من المسلمين في العالم العربي، كانوا أقليّةً حتّى في حينه.
قيمةُ المسيحيّين هي في قِيَمهِم أي الـ Value System الذي يتحدّرون منه، وعلى رأسها المصالحة، وصنع السلام، والمحبّة، والغفران. هذه هي قيمُ المسيحيّة والمسيحيّين. عندما كان الغرب مسيحيّاً إسماً وممارسةً، وكانت هذه القيم عناوين حياتيّة هناك، وخصوصاً بعد الحروب الصليبيّة الغبيّة، إنتعش الغرب وقاد العالم في العلوم والاكتشافات والاختراعات، ونَقَل الناسَ عبر مدارسه وجامعاته من مكانٍ إلى آخر حيث تمّ اكتشاف العلاجات على أنواعها من أدوية ولقاحات، وتمّ اختراع وسائل التكنولوجيا التي سهّلت للإنسان عيشته، وأعطته فرصاً ثمينة للنموّ والحُلُم بغدٍ أفضل.
في لبنان، كانت قيمة المسيحيّين الحقيقيّة في موقفهم من العلم والمعرفة والتطوّر. قيمتهم كانت في مدارسهم التي علّمت المسلمين قبل المسيحيّين وإلّا ماذا فَعَلت مدارس الراهبات اللبنانيّات، ومعاهد الإرساليّات الكاثوليكيّة والإنجيليّة في بعلبك والنبطيّة وصيدا وطرابلس وصور؟ وكانت قيمتهم في جامعاتهم التي بقيت لوقتٍ طويل الجامعات الخاصّة الوحيدة التي يكتسب منها اللبنانيّون والعرب علماً ومعرفةً وثقافةً ومهارات. قيمة المسيحيّين كانت في مستشفياتهم التي تأسّست على يد إرساليّات مسيحيّة أو رهبانيّات لبنانيّة، يوم كان الناس يقولون عن لبنان إنّه مستشفى الشرق. قيمة المسيحيّين كانت في ثقافتهم إذْ أجادوا منذ عقودٍ اللغات العربيّة والفرنسيّة بنوعٍ خاص، والإنكليزيّة. هذه الثقافة مَنَحت لبنان فرصةً لكي يكون نقطة التقاء بين الشرق والغرب كما علّمتنا كتبُ التربية. قيمة المسيحيّين كانت في وعيهم أهميّة السياحة في الوسط الصحراوي العربي، فأبدعوا في تأسيس الفنادق والمطاعم ومراكز التزلّج في زمنٍ لم تكن دبي نقطة التقاء الشرق بالغرب، ولم تكن تركيا وقبرص وجهات سفرٍ للأجانب والعرب كما كان لبنان.
هؤلاء هم المسيحيّون. هذه قيمتهم. قيمتُهم في قيَمِهم وذهنِهم المتنوّر وثقافتهم وشجاعتهم في صنع المعجزات الإقتصاديّة. حتّى العرب وبعض اللبنانيّين الذين انتقدوا، ولعقودٍ طويلة، علاقات لبنان العالميّة، عادوا وحذوا حذوَ المسيحيّين في شبك علاقاتٍ دوليّة.
يأخُذني هذا الواقع التاريخي إلى سؤالَيْن: الأوّل، ماذا يرى الشركاء في الوطن من سُلّم قِيَم المسيحيّين هذه الأيّام؟ هل يرون تشاتماً وتقبيحاً أكثر مّما يرون ثقافةً هادرة؟ قد لا يكون الآخرون أفضلَ حالاً. لكنّ المسيحيّين، عندما لا يتميّزون، لا قيمةَ حقيقيّةً لهم. قوّة المسيحيّين ليست في وزارة أو صلاحيّة. قوّتهم في تميّزهم. لا أراه هذه الأيّام. السؤال الثاني: المسيحي الفاسد “شو بدنا فيه”؟ لماذا ندافع عنه؟ هذا لا يعني أنّ الطوائف الأخرى تشبه “سانت ريتا” في تخلّيها عن الفاسدين. لكن إذا كُنّا فِعلاً نؤمن بتميّز تاريخنا الثقافي والاقتصادي والتربوي والصحّي والمصرفي، فإنّ الإقلاع عن الدفاع عن الفاسدين والفاشلين يصبح ضرورةً وطنيّة تؤسّس لقوّةٍ معنويّة على مستوى الوطن، فلا يعود بمقدور أحد الوقوفَ في وجه إصلاح مدعومٍ ليس بصلاحيّات لا قيمةَ لها، بل بقوّة معنويّة هادرة لها مؤيّدون كُثُر في لبنان والعالم. عندذاك يكون تميّز المسيحيّين تواضعاً وقوّةً للبنان، إذا فقدوه، فلا قيمة حقيقيّة لوجودهم.
سمير قسطنطين