أسمعُ كثيراً هذه الأيّام كلاماً عن القرف الموجود في البلد، وأرى بأُمِّ العين يأساً كبيراً من الأوضاع ومن القائمين على شؤون الناس. ولا أُخفي سرّاً إن قُلتُ إنّ قسماً من أصدقائي، وهُم من كلّ لبنان، يفكّرون جدّياً بالابتعاد عن البلد، إمّاً في سفرٍ قريب إلى دولٍ خليجيّة، أو في هجرةٍ بعيدة إلى أوستراليا أو أميركا الشماليّة أو إحدى دول أوروبا. الهجرة القريبة لا تقلقني لكنّ الهجرة إلى ما هو أبعد من الخليج تُحرّك مخاوف لديّ حول مستقبل البلد.
لكنّي أحببتُ في هذا الصباح أن أقول إنّي وعلى رغم عيشي في لبنان وليس في “لا لا لاند”، ما زلتُ أرفض وبالإصرار نفسه الذي كان لديّ في حرب السنتين، وفي النصف الأوّل من الثمانينات حين درستُ في الولايات المتّحدة، وفي كلِّ مراحل درب الجلجلة، ما زلتُ أرفض فكرة الهجرة في الأساس.
العيشة في لبنان باتت صعبةٌ جدّاً ولا أُحاول البتّة أن أخفّف من وطأتِها، ولن أسمح لنفسي أن أتجاهل حجم الأخطار المحيطة بنا، ولا الخسائر التي لحقت بنا، ولا الأضرار التي عاناها ويعانيها الناس.
أستطيع أن أتفهّم كلَّ يائسٍ، وكلّ من يفكّر بالهجرة، وكلّ من خاب ظنّه في لبنان وحكّامه. ولن أسمح لنفسي بأن أُزايد على أيٍّ ما بحبِّ الوطن، ولن أُحاول إقناع أيِّ شخصٍ أو عائلةٍ بالبقاء في لبنان، ولن أشرح لأحد كم أنّ الوطن غالٍ. كُلّنا نحبُّ لبنان، وكلّنا كُنّا نرغب في البقاء فيه.
لكن إسمح لي أن أقول لكَ ولكِ، ومن دون مزايدة ولا مكابرة ولا مبالغة في حبّ الوطن إنّني باقٍ هنا. أنا غير مقتنعٍ بالهجرة خياراً، ولا باليأس نهجاً، ولا بالإحباط سلوكاً. سأبقى هنا ولن أُعدّد لك الأسباب. لستُ بحاجةٍ لفعل ذلك. قراري ليس بالضرورة عقلانيّاً، ولا أستحي بذلك إطلاقاً، ولا يُقلّل هذا من قيمة فكري لا من قريب ولا من بعيد. في هذا الوطن الذي خَلَقني الله فيه، عندي الكثير الكثير من الأسباب لأبقى فيه. لن أُعدّدها لأنّي لستُ بصددِ إقناعك بشيء. الموضوع بسيط جدّاً. أنا عندي رسالة وهي أن أترك بصمةً في حياة كلّ من ألتقيه، وأن أجلب بسمةً إلى وجه من أتعامل معه، وأن أُحاول أن ألمس حياة شخصٍ لم يجدْ حوله الكثير من الأشخاص الذين آمنوا به وبقدراته واستحقاقه فرصاً للتقدّم. كُلُّ حياتي هي من أجل هؤلاء. وفي اعتقادي أنّ لبنان لم يكن فيه يوماً أشخاصٌ بحاجةٍ إلى عناية ومساندة واهتمام كما هو حاصلٌ الآن.
أنا لستُ ملاكاً، ولا أدّعي الطوباويّة، ولا “أرشحُ زيتاً”. أنا إنسان ضعيف، أُخطئ ويُعْييني التعب، ويَثقُلُ حِملي في مرّاتٍ كثيرة، لكنّي لم أسأل نفسي ولا في يومٍ من الأيّام ما إذا كُنتُ أُريد أن أُهاجر أم لا. عندما كُنتُ في أميركا سألتُ نفسي عشرات المرات “متى أعود”؟ وعندما كُنتُ أُسافر في مهمّةٍ مهنيّة أو مع عائلتي للراحة، كُنتُ أقول لنفسي في كل سفرةٍ: “الفرصة حلوة بس لبنان شغلة كبيرة”. لم أُغيّر رأيي ولن أُغيّره. هذا الكلام لا يلزم أحداً على الإطلاق. حتّى أولادي لا يلزمهم. كلامي يُلزِمُني وحدي وأتمنّى من كلّ قلبي ألا تكون الهجرةُ خياراً لهم، لكن حياتَهم هي حياتهم. أعطُيْتُهم حبَّ لبنان مع كلّ نَفَسٍ أخذوه.
في مرّاتٍ كثيرة أتحدّث بهذه الأمور مع صديقي الحبيب جوزف مغامس. للأستاذ جوزف “محطّة كلام” هي “روحوا العبوا يا ولاد” في إشارة إلى ما يحصل بعد اتّخاذك موقفاً في الحياة. في هذا الصباح أريد أن أقول لكلّ من ظنّ نفسه إلهاً قادراً على التحكّم برقاب العباد، ولكلّ من أوصل الناس إلى اليأس فيما هو كدّس الثروات خارج البلاد، أقول له: “لن تقوى على تيئييس كلّنا. الذين مثلي كُثر. مرّ علينا كلّ أنواع المحتلّين. نكّلوا باللبنانيّين، هجّروهم قَسراً، يأّسوهم من وطنهم. هُم اندحروا وبقي لبنان وبقينا”. لهؤلاء أقول: “روحوا العبوا يا ولاد”. لكم أنتم بالضبط أقول: “إنّما النصر صبر ساعةٍ”. وإذا طالت الساعة؟ أقول لكم أيضاً: “الله بيدبّر … وما رَحْ يِتْركنا”. خسئتم. لن تُفشِلوا الكثيرين منّا، مِمَن وجدوا فرحهم في العطاء وخدمة الناس وتطييب نفسها، وبلسمة جرحها، و”جبر” خاطرها. هؤلاء هُم سعادةٌ لم ولن تقووا على نزعها منّا. فرَحُنا ينتظرُكم على كلّ كوع. وحُبّنا لهؤلاء الناس وخزٌ في ضمائركم. و”بْقِلْكُنْ شي”؟ لا أُريد أن أكترث إلى ضمائركم إذا ما وخَزَها الوجع أم لا. “آخر همّي”. الناس الطيّبون الصامدون الصابرون هُم المبتغى. زادَ عددُهم كثيراً. هُم ينتظروننا في كلّ حي. وسأقول لكَ كلمةً أخيرة “لبنان أحلى بلد بالكون” وسيبقى. إذا ظنَنتَ أنّي ساذجٌ، لن أُتعب نفسي لأبرهن لكَ العكس. وإذا اعتقدْتَ أنّني عاطفيٌّ وأتكلّم من دون عقل، “ما في مشكلة”، صدّقني. “الله بيدبّر”.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات