أذكُر مشهداً لوالدي، رحِمَهُ الله، وهو يقفُ أمام المغسلة وفوقها المرآة في مطبخ بيتِنا في المصيطبة منذ أكثرَ من خمسين عام. في كلِّ صباح كان والدي يحلقُ ذقنه هناك، وكان يستمِعُ أثناء قيامه بهذه المَهمَّة إلى برنامجٍ إذاعي صباحي تبثُّه “هيئة الإذاعة البريطانيّة”. كان إسم البرنامج “لكلِّ سؤالٍ جواب”. فيه كان أحدهم يطرحُ سؤالاً، كانت الإذاعة تُحيلُهُ إلى خبيرٍ في المجالِ الّذي يتمحوَرُ حولهُ السؤال، وكان المذيع يتلو الجواب. منذ ذلك الحين وموضوع السؤال ونوعيّة السؤال تحرِّكُ فكري وذهني وذاكِرَتي أيضاً.
هناك أنواعٌ عديدة من السّؤال.
عندَ تحضيرِ الإمتحانات في المدارس، يتَّبِعُ واضعو الأسئلة أنماطاً معيّنة من الأسئلةِ، لا أريدُ أن أتحدّثَ عنها. كلامي محصورٌ في نوعِ الأسئلةِ الّتي تُساعِدُ في مواضيع الحوار بينَ الجماعات، وتُساهِمُ في تجويدِ التّواصلِ بين الأفراد.
بطبيعة الحال هناك سؤالٌ إستهلاكي لن أتوَقَّفَ عنده كثيراً. تسألُ أحدهم مثلاً: “كيفَك، كيف صحتَك؟” سؤالٌ استهلاكيٌّ، لا يؤدّي وظيفةً أكثرَ ممّا يوحي به. لكنَّ ماذا عن الأسئلة التي تُغلِقُ النّقاش وتوصِله إلى أماكن غير محمودةٍ؟
خُذْ مثلاً “سؤال التّعميم”. تسألُ شخصاً عاشَ في بلدٍ ما لوقتٍ طويل. لعدَمِ إثارةِ الحساسيّة، سأُسمّي هذا البلدُ “مِدماك”. تسألُ هذه الشّخص الّذي عاش هناك ردْحاً من الزّمن وقد كَسِبَ جنسيّة أهلِ البلد، سؤالاً مثل هذا: “هل صحيح أنَّ أهل “مدماك” وَسِخون؟” أو “هل صحيح أن أهلَ “مدماك” كذّابون؟” هكذا سؤال يوحي بالتّعميم، وفيه الكثير من عَدَمِ الإنصاف. سؤالٌ مثل هذا لا يؤدِّي إلى نتيجةٍ جَيّدة. فالمُجيبُ قد يقول لك كلاماً مثل هذا: “أُفَضِّلُ أن يكون الشّعبُ الّذي أعيشُ بينه غير نظيف على أن أعيشَ مع شعبٍ فاسِدٍ مثلكم.” ينتهي الحديثُ هناك بمشاعِرَ سلبيّة.
السّؤال الثّاني الممنوع هو “السّؤال الاستفزازيّ”. استفاقَ رجُلٌ في الصّباح. رأى زوجتَه تشرَبُ القهوة لوحدها. سألَها: “شِرْبُ القهوة لَوَحدِكْ أطيب، أو أطيب مع إمِّك؟” تبدأ هي بالغليان وقبلَ أن تصل حرارتها إلى الماية درجة، “بِتْفور القهوة معا”، فيُطلِقَ لسانها كلاماً مُوجِعاً، وتحرَدُ ولعلّها تنتقِلُ من مكانها إلى غُرفتِها من جديد. هذا سؤالٌ استفزازيّ. تتحدَّث إلى الرّجُل، تسأله: “لماذا سألتها هذا السؤال؟ بماذا أفادك؟” يقولُ لكَ بسذاجةٍ لئيمة: “كِنْتْ عم إمزح معها.” هذه ليست مزحة. هذا سؤالٌ استفزازيّ.
سؤالٌ آخر هو “السّؤال التشكيكيّ”. في زمن الـ online هذا، تَجِدُ المعلّمة نفسها أمام شاشة الكومبيوتر، ومعها ثلاثون تلميذاً وتلميذة من الصّف. تَتحدَّثُ إليهم عن نتائج الإمتحان الّذي أَجْرَوهُ online قبلَ يومين. تَلتَفِتُ عَبرَ الشّاشةِ إلى تلميذٍ اسمه فؤاد. تسأله بصوتٍ عالٍ أمام أصدقائه: “هل أنتَ متأكِّد يا فؤاد مِن أنَّكَ تستحِقُّ العلامة الّتي نِلتَها وهي 18/20؟ هل تُريد أن تقولَ لي أنَّك لم تَسْتَعِن بأصدقائك عبرَ تطبيق الـ WhatsApp؟”. هذا سؤالٌ تشكيكيّ. إذا تحدَّثتَ إلى المعلّمةِ وسألتَها عن جدوى هذا النّوعِ من السّؤال وإمكانيّة تأثيره سلباً على التّلميذ، وإخجالِه أمام أصدقائه جميعاً، وانعكاس هذا السّؤال سلباً على علاقة المعلِّمة بالتّلميذ، وعلاقة التّلميذ بالمادّةِ الّتي تُدِرِّسُها هذه المعلّمة، تُجيبُكَ المعلِّمةُ قائلةً: “أنا لم أقُلْ له إنَّهُ كان يغُشُّ. أنا لفتُّ نظرَه إلى استغرابي من علامته العالية.” لكن في النتيجة، السّؤالُ كان تشكيكيّاً والتّأثيرُ لم يكُنْ إلّا سلبيّاً على التّلميذ وعلى العلاقةِ مع المعلِّمة.
السّؤال الآخر غير الصّحيح هو “السّؤال الإتّهامي”. تُشاهدُ حلقةً تلفزيونيّة لـ Talk Show معيَّن. المُضيف يسأل رئيساً لأحدِ الأحزاب: “لماذا نوّابُ حزبك ووزراؤه يسرقون المال العام؟” هذا سؤالٌ اتّهامي من شأنه أن “يزرُك” الضّيف في الزّاوية، وغالباً ما يستثير هكذا سؤال جواباً ناريّاً أو “دفاعيّاً” بمعنى defensive. هكذا أسئلة وهكذا رُدود تأخُذُ الحلقة التّلفزيونيّة إلى مكانٍ تحرّك مشاعِر الناس لكنّها لا تؤدّي وظيفةً أساسيّةً من وظائف الإعلام وهي توعية الرّأي العام.
سؤالٌ اتهاميٌّ آخر تسألهُ زوجةٌ لزوجِها تَعَوَّد أن يصلَ إلى منزِلِه آتياً من عمَلِهِ في السّاعة الخامسة مساءً، وهو قد وصل ليلة أمس السّاعة الخامسة والنّصف. الزّوجةُ، وعندَ فَتْحِ الزّوج لباب البيت، تسأله هذا السّؤال: “مع مين كنت؟ مين رِحِتْ شِفِتْ؟”. يُجيبُها بأنَّهُ مَرَّ بمحطّة الوقود، وهناك طالَ الحديثُ بينَهُ وبين صاحب المحطّة. هي لا تقبلُ هذا الكلام وتقولُ لهُ: “لو كان هيدا مزبوط، ومنّك مخبّى شي مطرح، كنت خلِّيت تلفونَك مفتوح.” يحلِفُ لها أنَّ بطّارية الهاتف الخلوي قد فَرَغتْ. هي لا تُصدِّق. هذا السّؤال الاتّهامي يأخذُ العلاقة بين الزّوجِ والزّوجةِ، خصوصاً إذا ما تَكَرَّرَ، إلى مرحلةٍ مُتَوَتِّرةٍ من العلاقة فيها الكثيرُ من الشَّكِ والاتّهام.
السّؤال السلبيّ الأخير هو السّؤالُ المُغلَق. في حديثٍ سياسيٍّ بينّ فردَيْن يتعرّفان ببعضهما البعض للمرّةِ الأولى. يسأل أحدهما الآخر قائلاً: “إنتَ مع باسيل أو مع جعجع؟”. وإذا صُودِفَ أنَّ هذين الشّخصين يعيشان في منطقةٍ أخرى يكون السّؤال: “بتفضِّل حركة أمل أو حزب الله؟”. هكذا سؤال يضعُ المُجيبَ أمامَ حائطٍ مسدود. هو لا يريد أن يُجيب بنعمٍ أو لا، ولا يريدُ أن يُجيبَ بكلمةٍ واحدة فقط، فيما السّؤال يَفرُض على المُجيبِ جواباً حدودُه الكلمة الواحدة. هكذا أسئلة تُشبِه أسئلةَ الـ True or False الّتي كانت مدرستُنا في المصيطبة تتميّزُ بها من قبلِ أن تُعرَف في سائر المدارس. هكذا سؤال لا يُفيد.
بعدَ كلِّ ما ورد، كيف نسألُ إذاً؟ وما هو السّؤال الّذي يُغذّي الحوار المُنتِج بين النّاس؟ هناك نوعان من الأسئلةِ يُنصَحُ المرء بهما، وهما سؤالان متكاملان. السّؤال الأوّل هو “السّؤال الاستفهاميّ”. هذا يعني أنّه يحقُّ لكَ أن تستفهمَ، بشرط ألّا تستفزَّ الآخر، وألّا تتّهمه، وألّا تُشكِّكَ به، وألّا تُعمِّم. يمكنك أن تستفهمَ عن الـ “ماذا” والـ “لماذا” والـ “كيف” والـ “أينَ” وكل ما شابَه من الأسئلة، لكن على سبيل الإستفهام. يُمكِنُ للزّوجةِ أن تسأل زوجها الّذي تأخَّر سؤالاً مثل هذا: “حبيبي انشغل بالي عليك لمّا تأخرت. أكيد صار شي، ليش تأخّرت؟”. ويستطيع المرءُ أن يسألَ سؤالاً لشخصٍ عاش في بلد “مدماك”، كما قلتُ سابقاً، لفترةٍ طويلة عن إشاعةٍ سمِعها عن أهل ذلك البلد. يستطيعُ أن يسأل مثلاً: “أسمَعُ في بعضِ المرّات تعميماً عن أهلِ “مدماك” لجهةِ نظافتهم. هل هذا صحيح أو فيه افتراء؟”. وقِسْ على ذلك.
السّؤال الثّاني والأخير الّذي أَوَدُّ أن أتحدّثَ عنهُ هو “السّؤال المفتوح”. فَبَدَل أن أسألَ سؤالاً جوابه “نعم” أو “لا”، سأسأل أسئلةً مفتوحةً من الآن فصاعداً. خُذْ هذا النموذج من الأسئلة المفتوحة التي قد تسألها لشخص في معرض حديثك معه في السياسة: “عندما تصغي لتصاريح المسؤولين في التّيار الوطني الحُر والقوّات اللّبنانية، ما هو رأيك لجهة الاتّهامات المتبادَلَة؟ يَهُمُّني أن أعرف نظرَتَك إلى الموضوع.” هكذا سؤال لا يستَفِزُّ أحداً ولا يُشكِّكُ في أحد ولا يُعمِّمُ ولا يَتَّهِم. جوابه ليس “نعم” أو “كلّا”، وجوابه ليس True or False. هكذا سؤال من شأنِهِ أيضاً أن يُجَوِّدَ النّقاش ويأخذه إلى مَراتِبَ أعلى.
السّؤال تقنيِّةٌ كبيرةٌ وأساسيّة في الحوار. هناك أسئلةٌ طابِعُها سلبيّ من الأفضلِ أن تَتَجنَّبَها، وهناك نوعان من الأسئلةِ الإيجابيّة الّتي تفتحُ حواراً وتُعطي فرصة أكبر للتّفاهُم، من الأفضلِ أن نسألها. الخيارُ لك. سؤالُك يحدِّدُ إلى حدٍّ كبير نوعَ الجوابِ الّذي تُريدُ أن تَتَلقّاه.
سمير قسطنطين