كلُّ اللبنانييّن تقريباً يعتبرون أنَّ الطّبقة السّياسيّة نجَحَتْ في خَلْقِ أزمات مُتراكِمة، وفشلَتْ في إيجادِ ولو حلٍّ واحدٍ لمشكلة واحدة. وكثيرون يعتبرون أنَّ الزعماء السياسييّن أخطأوا وفشلوا في إدارة الشّأن العام. مع ذلك ترى لبنانيّين من مُختلف المذاهب والأحزاب ما زالوا على ولائهم المُطلق لزعمائهم. وفي هكذا وضع تسأل نفسَك: “كيف يستمرُّ حزبيٌّ في الدّفاع المستميت عن زعيمه، على الرغم من إدراكه أنَّ زعيمه هو جزءٌ من طبقةٍ سياسيّةٍ فاشلة في إدارة البلاد”؟
هناك خمسةُ أسبابٍ لمواقف الحزبيّين. أوّلاً، هؤلاء يعتبرون أنَّ زعيمَهم هو من خارجِ المنظومة السّياسيّة الفاسدة. وإذا ظنّوا للحظةٍ أنَّهُ فاسدٌ، فإنَّ ما يبرِّرُ ولاءهم له هو اعتقادهم أنّه إنّما فعل ذلك من أجل إفادة أبناء مذهبه. فهو وَظَّفَ إخوتهم، وساهم في فتح المستشفيات وبناء المدارس الرّسميّة في مناطقهم، ولو من مال الدّولة.
السّبب الثاني هو التّورُّط. بعضُ الحزبيّين تورَّطوا مع زعمائهم ونوّابهم ووزرائهم والمستشارين. عقدوا صفقات، استفادوا، رشوا وارتشوا، بهدف تحقيق مكاسب شخصيّة. زعيمهم يَعرِفُ ذلك ولا يزعجه أنَّهُ وَرَّطَهم مساهماً في إيجادِ موارد ماليّة لهم. في الزّمن الّذي استفادوا فيه بالدّولار الأميركي، لم يخطُر ببالهم أنَّ البلد سينهار، وأنَّ إخوتهم وأخواتهم وعائلاتهم سيدفعون الثّمن. ولم يعوا أنَّ أموالَهم الّتي جنوها بالسّمسرات ستُحجَزُ في المصارف، وأنَّ مدخّراتهم بالعملة اللّبنانيّة لن تكونَ ذات قيمةٍ بعد الآن. لكنّهم إذا أرادوا الآن مراجعة ولاءاتهم، فإنّهم يخشون أن يُنهيَهُم الزّعيم فيفضحَ ما عملوه، ويضايقهم في حياتهم العامّة والشّخصيّة. وهناك في لبنان أمثلةٌ عديدةٌ على ما حصلَ لحزبيّين أرادوا في يومٍ من الأيّام أن يتحرّروا وأن يعودوا بتفكيرهم إلى كنف الدّولة.
ثالثاً، عدم توفُّر البديل. الإنسان بطبعِهِ يحبُّ الإنتماء، والشّباب بنوعٍ خاص يرغبون في أن ينتموا إلى حزبٍ أو جماعةٍ، أو حتّى إلى شخصٍ ما في بلدٍ مثلَ لبنان. ينظُرُ هؤلاء الحزبيّون حولهم، فلا يَرَونَ أنَّ أحداً يُشكِّلُ بديلاً جيّداً قويّاً صاعِداً لهذه الطبقة السّياسيّة، فيتريّثون قبل اتّخاذ القرار الأخير بِترْكِ هذا الزّعيم أو ذاك.
رابعاً، كثيرون من الأشخاص في لبنان أحبّوا زُعماءهم لسنواتٍ طويلة. هذه المحبّة ارتبطت في لاوعيِهم الجماعي بانتصارات حقَّقها الزّعيم وبانكساراتٍ أيضاً. ارتبطوا بها وبه وجدانيّاً، وصار صعباً عليهم أن يخرجوا من هذا الارتباط العاطفي. يُذكِّرُني هذا بالشعور الّذي تختبره ضحيّةٌ خطفها جلّادٌ وسجنها، وبعد فترة أصبَحت الضحيّة متعلّقةٌ بالجلّاد عاطفيّاً، وبات صعباً عليها التحرّر منه. تشعُرُ الضّحيّة بشيءٍ من الشّفقة تجاه جلّادِها. وهذا تماماً ما يحصلُ مع شريحةٍ كبيرةٍ من اللّبنانيّين الّذين يحاولون دائماً أن يقولوا إنَّكَ إذا تخلَّيتَ عن الزّعيم الفلاني فهو “حرام” لأنّه لم يبخَلْ بجُهدٍ تجاه وطنه عندما كان قويّاً.
خامساً وأخيراً، يخشى البعض من الشماتة إن هُم غيّروا رأيهم. هُم ضعفاء لدرجةٍ أنّهم يخشون هزء الآخرين الذين خرجوا قبلهم من الانتماء. بدفاعهم عن الزعيم، إنّما هُم يدافعون عن ذكرياتهم والسنين التي ذهبت هدراً وكرامتهم بين هلالين.
باختصار، ما يحجز حرّية الناس، هو اعتقادهم بالزعيم كضمانة، وعدم توافُر بديلٍ مقنع، وخوفهم بسبب تورّطهم في ما مضى، وخشيتهم من الشماتة، ونعم شفقتهم على الزعيم. محزن.
سمير قسطنطين