غداً 24 نيسان 2021. مايةٌ وستّة أعوام على”الإبادة الأرمنيّة”. شعبٌ بأكملِه اقتلعَتْه الدولة العثمانيّة من أرضه، نكّلت به بِلا رحمة. فَعَلت به ما لا نقوى على سماعه أو مشاهدته عبر الإعلام. مليون ونصف المليون أرمني قُتِلَ في هذه الإبادة التي يُطلِق عليها العالم إسم الــ Armenian Genocide. لا أُريد أن أتحدّث عن البشاعات التي بدأت في ذلك اليوم قبلَ أكثرَ من مئةِ سنة، لكنّي أُريد أن أتوجّه بالتحيّة إلى الشعب الأرمنيّ في لبنان والعالم لثلاثة أمورٍ على الأقل.
أُحيّيهم أولاً، لأنّهم صنعوا من إبادتهم قضيّة. هناك شعوبٌ تعرّضت للإبادة لكنها لم تستطع أن تجعل من الإبادة قضيّة. خُذْ رواندا مثلاً. في العام 1994 شنّ القادة المتطرّفون في جماعة “الهوتو” التي تمثّل الأغلبيّة في رواندا حملةَ إبادةٍ ضدّ الأقليّة من “التوتسي”. وفي خلال فترة لا تتجاوز مئة يوم، قُتل ما يربو على 800.000 شخص من “التوتسي” وتعرّضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب. حصل هذا منذ سبعةٍ وعشرين عاماً أي في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. من عَرَفَ في بلادِنا عن هذه الإبادة؟ لا أحد تقريباً. الأرمن في المقابل، خلقوا قضيّةً من إبادتهم. إثنتان وثلاثون حكومة ومجلس نواب حول العالم يعترفون اليوم بالإبادة الأرمنيّة.
وأُحيّيهم ثانياً، لأنّهم أبقَوا قضيّتهم حيّة. عندما قتَلَ العثمانيّون مليوناً ونصف المليون أرمنيّ، أبقوا على نصف المليون فقط أحياء. كانوا قلّةً، مشرّدين في كل بقاع الأرض، من دون غذاء ولا مال ولا شيء آخر يسنُدُهم. هُم لم يصنعوا من إبادتهم قضيّةً فقط، بل أبقوها حيّة قرناً كاملاً وأكثر. ويبدو أنّها أصبحت الآن في مكان يصعب تراجعُها منه إلى الوراء. جعلوا من الموت حياةً، ومن الضّعف قوّةً، وكلّ ذلك بإمكاناتٍ بسيطة خصوصاً في مرحلةِ البدايات. خُذْ في المقابل القضيّة الفلسطينيّة. توفَّرَت للقضيّة الفلسطينيّة إمكاناتٌ هائلة في العقود الثمانية الماضية. لكن أين هي هذه القضيّة الآن؟ وَصَلت القضيّة الفلسطينيّة في السبعينات من القرن الماضي إلى أعلى منابر في العالم، لكن من منّا يسمع الآن بالقضيّة الفلسطينيّة؟ لا أحد. صارَت عبئاً على أكتافِ كثيرين من المناصرين السابقين. مؤسف، محزن. الآن نسمع بحروب عربيّة لا تنتهي لكنّنا لا نسمع بالقضيّة الأساس، قضيّة فلسطين.
ثالثاً وأخيراً، أُحيّي الشعب الأرمنيّ لأنّه بَقِيَ مُوَحّدًا حول قضيّته. تطلّعْ حولك. ماذا ترى؟ ترى المسلمين في العالم العربي منقسِمين بين سُنّة وشيعة في دولٍ عديدة، وبين سُنّةٍ وسُنّة في ليبيا ومصر. المسيحيّون في لبنان منقسِمون أيضاً في صراعٍ أزليٍّ على سلطةٍ لا تستحقُّ ذلك. يتناحرون أكثر ممّا يتحاورون. لكنّ الأرمن ينقسِمون فقط على صناديق الاقتراع. لم نسمع يوماً بخلافٍ دمويٍّ بين فصيلَيْن أرمنييَّيْن. وِحدتُهم حول قضيّتهم وحدةٌ حقيقيّة بكلِّ ما في الكلمة من معنى.
نعم خَلَقوا من إبادتِهم قضيّة، حافظوا على القضيّة فلم تندثرْ، وبَقَوا مُوَحَّدين. أفلا يستحقون التحيّة؟
سمير قسطنطين