قبل أسبوع من اليوم يقتحم موظّف سابق في شركة فيديكس في مدينة سان خوسيه في ولاية كاليفورنيا باحةً لصيانة القطارات على غفلة مدجّجاً بثلاث قطع سلاح متطوّرة وذخائر، يفتحُ النارَ على زميلات وزملاء سابقين فيقتل تسعةً منهم. من ثمّ أطلق المسلّح النار على نفسه منتحِراً وسط ذهولٍ كبير وأسىً عمّا أميركا.
حدث هذا بعد وقوع حادثين كبيرَيْن منفصِلَيْن في شهر آذار قُتِل فيهما ثمانية عشر شخصاً، وقعَ واحدٌ منهما في مركز تدليك في ولاية جورجيا الأميركية، والثاني في متجر في ولاية كولورادو.
الجرائم لم تكن الأولى من نوعها. فلعلَّ بعضَنا يذكرُ ذلك الرجل الذي حجزَ له غرفةً في أعلى طبقات الفندق في لاس فيغاس في العام 2017، ومن ثمّ أطلق النار من شرفة غرفته على تجمّعٍ راقص قرب الفندق مستخدماً أسلحةً عديدة، وأردى ثمانية وخمسين شخصاً في دقائق قليلة. حادثةٌ أخرى حصلَت في صيف الـ 2016. رجلٌ يدخل إلى ملهى ليليّ للمثليّين في فلوريدا ويفتح النار على روّاده فيقتلَ على الفور خمسين شخصاً.
هذا النوع من الجرائم بات في أميركا في السنوات القليلة الماضية متكرّراً ومتصاعداً وممكِناً. لماذا هذه الجرائم الجَماعيّة؟ أسبابٌ عديدةٌ تؤول إلى ذلك.
أولاً، المرض العقلي. المرضى العقليّون في أميركا لهم حرّية الخيار وحريّة التحرّك. بحسب القانون، لا يمكنكَ أن تحتجزَ هؤلاء إلّا إذا هُم خالفوا القانون. لكنّ المؤسفَ في هذا أنّ مخالفةَ هؤلاء للقانون كانت كارثيّة ومفاجئة، وجاءت دفعةً واحدة في مرّات عديدة.
ثانياً، حرّية وقانونيّة اقتناء السلاح وحمله. يضمنُ هذا الحق التعديلُ الثاني من الدستور الأميركي المعروف في أميركا بالـSecond Amendment. غنيٌّ عن القول أنّ انتشار السلاح بين الناس يزيد وبكثرة إمكانيّة حدوث الجرائم.
السبب الثالث يتمثّل في سهولة شراء السلاح وليس في شرعيّة اقتنائه فقط. هل تعلم أنّ السلاحَ يُباع في أميركا في متاجر مخصّصةٍ لبيعِه؟ يبدو الأمرُ غريباً لكن هذه هي الحقيقة. ويبدو أنّ في القوانين التي تنظّم شراء السلاح ثغراتٍ فاضحة، الأمر الذي يمكّنُ أشخاصاً غير مستحقّين شراءَ السلاح واقتناءَه.
وأرى السبب الرابع متمثّلاً في ما أُسمّيه “الشرّ المُطلق”. وهذا النوع من الشر يرتبط في مرّاتٍ كثيرة بمعتقداتٍ دينيّة خاطئة يُغذّيها الجهل ومتوارثات اجتماعيّة ترتبط بالدين. في العام 2009 مثلاً أطلقَ الطبيب المجنّد بالجيش الأميركي نضال حسن، وهو أميركي من أصولٍ عربيّة، النار داخل قاعدة فورت هود في تكساس على عسكريّين ما أسفر عن وقوع ثلاثة عشر قتيلاً معظمهم من العسكريّين. ويُعتقد أنّ الدافع الأساس إلى فعل ذلك هو خلفيّته الدينيّة. وفي الإطار ذاته، كثيرون منّا يتذكّرون حادثة واكو في ولاية تكساس في العام 1993، حيث انتهى الحصار الذي ضربَتْه قوات الشرطة والـ FBI على مقرّ أتباع “طائفة ديفيد كوريش” لمدّة شهرين تقريباً باشتعال المباني ومقتل خمسة وثمانين شخصاً من أتباع الطائفة، بينهم عدد من الأطفال وزعيم الطائفة أيضاً. وتُعتبر هذه الحادثة من أبرز حوادث القتل الجَماعي المرتبطة بالدين في التاريخ الحديث لأميركا.
سببٌ خامسٌ يؤدّي إلى هذه الجرائم قد يبدو مضحكاً مبكياً للوهلة الأولى، وهو المنافسة، نعم المنافسة التي تطبعُ الثقافةَ المجتمعيّةَ الأميركيّة على مستوى الجماعة ومستوى الفرد. المنافسة في أميركا هي قيمة أي Value. هي ليست كما في سائر الثقافات، صفةٌ تلازمُ بعضَ الأفراد والمؤسّسات. فعندما يرى بعضُ الأميركيّين جرائم من هذا النوع، وهُم يكونون في وضعٍ صحيٍّ عقليٍّ ونفسيٍّ غير سليم، فإنّ ثقافةَ المنافسة قد تدفعهم في اتّجاه القتل الجماعي لتسجيل رقمٍ قياسيٍّ في عدد القتلى أو ما نسمّيه Record Number. الأميركيّون يفكّرون بالـ Mega Size. جامعاتُهم هي كذلك، متاجرُهم ينطبق عليها هذا الوصف وكذلك جرائمُهم. فالذي قتل ثمانيةً وخمسين شخصاً في لاس فيغاس وجَدَتْ الشرطة في غرفتِه في الفندق ثلاثاً وعشرين قطعة سلاح عدا العشرين قطعة سلاح التي وجدَتْها في منزله. والرجل الذي ارتكبَ جريمتَه قبل أسبوع في كاليفورنيا وجدَتْ الشرطة في منزله 22000 طلقة رصاص، هل تصدّق؟ لماذا؟ لأنّ الثقافةَ الأميركيّة هي ثقافة القياسات الكبيرة.
هي قراءة متواضعةٌ هذا الصباح في أسباب الجرائم الجماعيّة في أميركا. المحزنُ في النهاية هو الضحايا وهم في كلّ مرّة أبرياء لا ذنب لهم سوى وجودهم في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ. كم يوجع هذا الجنون.
سمير قسطنطين