من يتابع الأخبار يكاد يقتنع أنّ مسائلَ بسيطة اختلفَ عليها الرئيسان عون والحريري تؤخّر التشكيل، لكنّ الحقيقة في مكانٍ آخر. ليس صحيحاً أنّ الخلاف هو على من يسمّي الوزيرَين المسيحيّيَن من خارج حصّة الرئيس عون، أو على من يُسمّي وزير الداخليّة ويحدّد طائفته. الموضوع ليس موضوع إسناد حقيبة الطاقة للتيّار أم لغيره، ولا علاقة له بإعطاء الثلث الضامن لرئيس الجمهوريّة. والقصّة ليست قصّة قدرة “الخليلَيْن” على اجتراح المعجزات، ولا تمتُّ بصلةٍ إلى تحصيل الرئيس الحريري حقوق طائفته، ولا تقترب من وهم تحصيل التيّار لحقوق المسيحيّين. وليس لهذا الوضع المقيت علاقةٌ بقدرة الرئيس برّي على إخراج الأرانب من أكمامه، فالأرانب غير موجودة. وما يجري لا يرتبط بعبارات “أدار الرئيس برّي محرّكاته” أو “أطفأ الرئيس برّي محرّكاته”. ولا دخل لزيارة مسؤولٍ أميركي أو أُممي إلى لبنان، أو زيارةٍ للحريري إلى الفاتيكان. هذا كُلّه مضيعةٌ للوقت وإلهاءٌ وإغراقٌ لنا في السراب.
ببساطةٍ، الطبقة السياسيّة انتهت، والنظام انتهى منذ سنوات. كلُّ ما يحصل منذ سنوات هو تأخيرٌ لمراسم الدفن. إفلاس الخزينة تلا إفلاس السياسيّين. هذه الطبقة السياسيّة غير مسموحٍ لها أن تشكّل حكومةً، ليس لأنّ الدول الغربيّة والعربيّة تريد حصارنا كما يدّعي البعض. ليس من حصارٍ على لبنان. سوريّا مُحاصَرَة؟ نعم. إيران مُحاصَرَة؟ نعم. لكن لبنان ليس مُحاصراً. لبنان بلدٌ منهوب وحكّامُه فاسدون. هذا كلّ ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. السياسيّون يصوّرون الوضع على أنّه هكذا ليغطّوا فشلهم في إدارة البلد. لكن البلد ليس مُحاصراً. العالمان العربي والغربي يترجّيان لبنان ليشكّل حكومة لا أحزاب فيها ولا فاسدين، يسمع وزراؤها صوت الدستور فقط، لا صوت الزعيم. لكنّ السياسيّين لا يريدون أن يفعلوا ذلك. يفضّلون إنهاء البلد على إنهاء قبضتهم عليه.
السياسيّون في لبنان يُدركون تماماً أنّه غير مسموحٍ لهم تشكيل حكومة مُحَاصَصة، لكنّهم يريدون أن يتذاكوا على الدول الصديقة وصندوق النقد الدولي، فيعتقدون أنّهم يستطيعون إقناع هؤلاء بتعديل رأيهم. تأخّروا كثيراً. الدول لا تثق بأحدٍ منهم. تسايرُهم لكي تمرّر مصالحَها من مثل ترسيم الحدود البحريّة والبريّة مع “إسرائيل”، وضمان الهدوء على الجبهة الجنوبيّة. عندما يسايروننا نعتقد أنّا “زمَطنا بِريشْنا” لكن هذا ليس صحيحاً.
هذه الطبقة غير مسموحٍ لها بتشكيل حكومة. قد يستطيع السياسيّون تذليل العقبات حول الأسماء والمذاهب والحقائب، وتشكيل حكومةٍ، لكنّنا سنكتشف في الليلة نفسها أنّ ليس من بلدٍ عربي أو غربي يريد التعامل معها. هي عودةٌ دائمةٌ إلى الصفر.
الحل؟ الحل ببساطة هو باقتناع الطبقة السياسيّة بعدم جدوى تأجيل انسحابها من المشهد السياسي تدريجاً، والشروع بتغيير سلوكيّاتها الوطنيّة تغييراً جذريّاً، والقبول بفكرة أنّ آخرين في البلد قادرون معها ربّما على إنقاذ لبنان، والمساهمة في “تصفير” البلد أي البدء بكلّ شيء من الصفر. أمّا البناء على باطل كما يرغبون بأن يفعلوا الآن، هو باطل وفي غير محلّه، وأعتقد أنّ الفترة الباقية من عهد الرئيس عون ستشهد ساعتها مزيداً من الانهيار لا يتحمّل وزره لوحده.
عسى أن يدرك السياسيّون هذه الحقيقة ويعلنوها للناس ويبدأوا من جديد مسيرةً مع آخرين جديرين بهدف إنقاذ لبنان عبر “تصفيره” والبدء من جديد.
سمير قسطنطين