لفتَتْني خطابات بعض السياسيّين في لبنان وأحاديثُهم التلفزيونيّة في الآونة الأخيرة. ترَكوا لديّ الانطباع أنّ كثيرين منهم يخرجون إلى الإعلام غير مهيّئين. عفويّتهم غير مقبولة خصوصاً في زمنٍ باتت الكلمة هي البضاعة الرخيصة الوحيدة التي يستهلكُها الناس. في المؤتمرات الصحافيّة والأحاديث للإعلام التي تلي الاجتماعات، وفي الـ Talk Show، تشعر وكأنّك جالسٌ أمام هواةٍ غير مُلِمّين بتقنيّات ومهارات التحدُّث إلى الجمهور أي الـ Public Speaking. لا أدري كيف تقبلُ أحزابُهم بهكذا أداء.
الذي يتحدّث إلى الجمهور وهو في موقع مسؤوليّة يجب أن يملك مهارات السيطرة على التوتُّر والقلق المرتبط بالتحدُّث أمام الآخرين، الأمر الذي لم يظهر في حديث وزير الخارجيّة المستقيل الأخير. فالقلق والتوتّر جعلاه يرى العربَ “بدواً” مع نَبرةٍ تشبه التهكّم. ومن المهارات المطلوبة عالميّاً لمن يتحدّث إلى الجمهور أن تكون لديه القدرة على تنظيم التدفُّق المنطقيّ للكلمة، فلا يكون، في رأيه، سبب قصف هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذريّة أنّهما مدينتان مسيحيّتان!
كذلك فإنّ حسّ الدعابة لإعطاء حياةٍ للكلمة وجعلها أكثر متعة مطلوبٌ إنّما ليس لدرجةٍ أن تُنادي السيدة “النائب” مرافقَها المحامي “أنطونيو” لكي يجيبَها عن سؤال: “أنطونيو ليه نحنا هون”؟ المسؤول الذي يتحدّث إلى الجمهور عليه أن يُتقن مهارات البحث والتقصّي عن أحدث المعلومات والاتجاهات المتعلّقة بالموضوع الذي يتحدّث فيه من على شاشات التلفزيون، بحيث لا تكون “ماري أنطوانيت” هي إبنة الأشرفيّة التي تريد أن تُطعم الناس بسكويت، ولا يكون سبب تفضيلنا إيران على السعوديّة “جودة السجّاد الإيراني”.
عندما يتكلّم المسؤول إلى الجمهور، عليه أن يُعبّر عن فكرته بوضوح فلا يكون “اللواء المُجَوقَل” لواءً “مُجولَقاً”. ولمّا يتحدّث إلى الناس عليه أن يقيّم احتياجات الجمهور الذي أمامه، فلا يعود ضروريّاً أن يتحدّث إلى الناس عن حقوق الطائفة السنيّة في صلاحيّات رئاسة الحكومة أو عن حقوق المسيحيّين “الضائعة”، فالناس تكون في وادي العَوَز والقلق على المستقبل، والمسؤول يكون في وادي الجشع السلطويّ.
عندما يتحدّث المسؤول إلى الجمهور يجب أن يقدر على التحكّم بنبرة الصوت للتأكيد على النقاط المُهمّة وتجنّب الإلقاء الرتيب. وهذا ما لا يحصل في غالب الأحيان فيفقد المسؤول صوابه ويبدأ بالصراخ مُطمئناً إيّانا أنّ ترتيب الوضع مع “البنك الدولي” من مسؤوليّته، فيقول بحدّةٍ مثلاً “اتركوا البنك الدولي عليّ”. ويصدُف أنّ البنك الدولي لا يفهم بالصراخ، هو يفهم بالأرقام فقط. ومن يتحدّث إلى الجمهور عليه أن يُتقن مهارات إعداد العروض التقديميّة من مثل الـ Power Point Presentation وغيرها، فلا يذهبون إلى اجتماعٍ أونلاين مع صندوق النقد الدولي من دون أن يكون مع أيٍّ منهم كومبيوتر مثلاً.
عليه أيضاً أن تكون ذاكرتُه جيّدة، وأن يملكَ بالتالي مهارات الحفظ والاستذكار، فلا يؤكّد مثلاً كوزيرٍ للماليّة أو كحاكمٍ لمصرف لبنان أنّ الليرة بخير وأنّ الدولة قادرةٌ على سداد ديونها، في وقتٍ كلاهما كان يعرف بأنّ الوضع كان سيّئاً لا بل مُريعاً لدرجةٍ كانت تحتّم عليهما الاستقالة آنذاك.
التحدّث إلى الجمهور يحتّم أن تكون لدى المتكلّم القدرة على جذب انتباه الجمهور. هذه الناحية أعترف لهم بها خصوصاً أنّ المادّة الطائفيّة جاهزةٌ “غبّ الطلب” ليُدَغدِغوا أعصاب الناس ويخيفوهم بها من اللبنانيّين الآخرين. أعترف أنّهم يمتلكونها وإن كانت قد فَقَدَتْ الكثير من جمهورها مؤخّراً، والدليل الأقوى كان نتائج انتخابات نقابة المهندسين يوم الأحد في بيروت.
من يتحدّث إلى الجمهور يجب أن يبقى ضمن سياق المنطق ولو كان منطقه هو، فلا يعود من الضروريّ قول وزير الزراعة مثلاً إنّه موجودٌ في عكّار في “جولة تفقّدية على مزارعي المنطقة بتوجيه من رئيس المجلس النيابي نبيه بري”. أودُّ أن أسأل: “يِعْني إذا الرئيس برّي نسي يقلّك، ما بتزور عكّار”؟
ومن الضروري للمسؤول أن يشرح فكرته بشكلٍ وافٍ لئلّا يُساء فهمها أو تُفَسّر بغير المعنى الذي قصده من مثل دعوة الناس وبسبب رفع الدعم عن البنزين إلى التفتيش عن “طريقة تانية” للتنقُّل.
الحديث إلى الجمهور أو الـ Public speaking هو عالمٌ واسعٌ جدّاً ومُعقّد جدّاً. الاستخفاف بوجود الناس من حولك أو بعقولهم، لا فرق، يمكن أن يذهبَ بك إلى منزلقات لا تُحمّد عُقباها. في ديار الله الواسعة حيث الناس والدولة والأحزاب تحاسب المسؤول على كلِّ كلمةٍ يقولُها، يتمّ تدريب هؤلاء بشكلٍ مُكثّف وعلمي فلا يقولون أشياء تأتـي بالوبال عليهم وعلى الناس وعلى الأوطان. هذا في ديار الله الواسعة. أمّا في جمهوريّة “كِل مين إيدو إلو” فإنّ نموذج “أبو كَلَبشة” يتقدّم على غيره، علماً أنّ “أبو كلبشة” كان يسلّي أُمسياتنا أكثر ممّا يسلّيها هؤلاء، الذين لا يعرفون طيبة “أبو كلبشة” ولا هضامة “فطّوم حيص بيص”.
سمير قسطنطين
Well said as usual
I love listening to your weekly contribution on 93.3