نعيش في عالمٍ صعب، مشاكلُه كثيرة، ولعلّ أصعبَها في المواجهة حاليّاً، تداعيات جائحة كورونا. وفوق ذلك، فنحن اللبنانيّين نعيش في بلدٍ، صعوبةُ الحياةِ فيه تفوق صعوبة الحياة في معظم بلدان العالم. وأعتقد أنّ الحياةَ هنا لم تكن بهذه الصعوبة منذ المجاعة الكبرى في جبل لبنان قبل أكثر من ماية عام.
في هذه الرحلة التي نمشيها منفردين أو بمعيّة آخرين، نواجه تحدّيات كثيرة بات الكلُّ يعرفها، ونحن أنفُسُنا نُدركُها. نحن في مواجهةٍ دائمة مع أزماتٍ متتالية صحيّة وماليّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وأخلاقيّة. كُلّنا لدينا وظائف نخشى من فقدانها، وفواتير علينا تسديدها وقتَ اندثار المداخيل، وعائلات وصداقات وعلاقات على تواصلٍ وتماس معها، وكلُّ هذا يأتي مع تعقيداته الخاصة. ويتطلب التوفيق بين كل هذه المسؤوليّات الكثير من الطاقة الجسديّة والعاطفيّة، في وقتٍ نحن لسنا إلّا بشراً ولنا حدودُنا ومحدوديّتُنا في تحمّل المسؤوليّات.
ولأنّنا أُناس ذوو طاقاتٍ محدودة، نتعرّض في الطريق لمشاعر الخوف فنسأل: “وماذا بعد؟ ماذا عن الغد”؟ وتنتابُنا مشاعر غضبٍ عندما نتذكّر احتجاز مدخّراتنا في المصارف، ونختبر مشاعر الأسى والحزن الكبير بمجرّد أن نفكّر بانفجار المرفأ وتداعياته، وتخترقنا مشاعر القلق عندما نفكّر بديمومة مصدر رزقِنا. كلُّ هذه المشاعر هي بطبيعتها سلبيّة. هي لا تُعطينا القوّة، ولا الزخم للاستمرار، ولا الفرح في المسير، لكنّها موجودة.
السؤال هو: “أَمِنَ الطبيعي أن تكون لنا مشاعرُ سلبيّة؟ أم أنّ ذلك أمرٌ خاطئ؟ ألا يحقُّ لنا أن تكون مشاعرُنا سلبيّة في بعض الأحيان؟ وإذا كان يحقُّ لنا أن تكون مشاعرنا سلبيّة، فهل يحقُّ لنا أن نُخرجها وأن يراها الآخرون”؟ وفي جوابٍ عن هذين السؤالَيْن أقول: “نعم يحقّ لنا أن تكون لنا مشاعر سلبيّة. طبعاً هذا يختلف عن أن نكونَ نحن أنفسنا سلبيّين. ونعم يجوز لنا أن نعبّر عن الخوف والقلق والغضب والحزن والأسى، وبالتالي أن نُظهر المشاعر الحقيقيّة التي نشعر بها حقًا”. المهم ألا ندمّر الجسور وراءنا، جسور العلاقات مع الناس الذين “مِنْفِشْ خِلِقنا معُنْ”.
بعض الأشخاص ينكرون علينا حقّ إظهار مشاعرنا السلبيّة بحجّة أنّها تظهرنا ضعفاء أمام الناس. هُم يعتبرون أنّ تعبيرَنا عن المشاعر السلبيّة ينزع عنّا صفة الإيجابيّة التي نكون قد تمتّعنا بها لوقتٍ طويل. لكنّ هذا ليس صحيحاً. هناك فرقٌ بين اختبارنا مشاعر حزن أو قلقٍ أو خوفٍ أو غضبٍ أحياناً، وبين أن نكون حزانى أو قلقِين أو خائفين أو غضوبين كحالات نفسيّة دائمة نعيشها في معظم الأيّام والظروف. الفرق كبيرٌ بين الحالتَيْن. في الصورة الأولى تكون المشاعر سلبيّة لوقتٍ محدّد نعبّر فيها عن وجهنا الإنساني، وفي المشهد الثاني تكون الحالةُ برمّتها سلبيّة. عندذاك نحن بحاجةٍ إلى مرافقة من اختصاصي.
في كلِّ ذلك، لا بأس في القول إنّك لست بخير. هذا يعني أنّ مشاعرك وعواطفك صحيحة، بِغضِّ النظر عن ماهيّتها. قد يستغرق الأمر معك بعض الوقت لتعلُّم هذه الحقيقة البسيطة. في صغركَ، وعندما كنتَ تتعرّض للتنمر مثلاً، تعاملتَ عن طريق الضغط باستمرار على مشاعركَ لأنّكَ كنت مرعوبًا من الناس الذين لا يوافقون على ما أنتَ هو. لقد دفعتَ كلّ مشاعركَ نزولاً إلى الأسفل لكي تخفيها، لكن هذا لا يعني أنها اختفت. اكتشَفْتَ لاحقاً أنّ مشاعرَكَ لا تزال هناك. لم تبتعد عنكَ أبدًا. جلّ ما فعلتَه هو أنّك أخّرتَ الانفجار. إنّ التعبير عن مشاعرك ليس بالأمر السيئ أبدًا، وإذا لم تكن على ما يرام، فلا بأس في قول ذلك.
الحياة ليست كلُّها أقواس قزح، وهي حتماً ليست برنامج الـ L’école des fans. لا بأس إذاً أن تشعر بوطأةِ الأشياء. لا بأس في أن تبكي، وأن تغضب. إعتقادُكَ بأنّ المشاعر من أيِّ نوع هي نقطة ضعف ليس صحيحاً. وجود العواطف والمشاعر يجعلك إنسانًا. قد تقول إنّك لا ترى نهايةً لألمِك، لكنّ الطريقةَ الوحيدةَ للتخلّص من ألمِك هي من خلاله. أنتَ ستخرج أقوى لأنك عانيتَ هذا الألم، بغضِّ النظر عمّا تتعامل معه الآن. قد تعتقد أن الاعتراف بأنك لستَ بخير قد لا يوصلك إلى أي مكان في الحياة. هذا أيضاً غير صحيح.
في المواجهة لا بأس في أن تحاول أن تكون اجتماعيًا. قد يكون هذا صعبًا للغاية، خاصة إذا كنت لا تريد أن يعرف الآخرون ما يجري. هذا المسعى يمكن أن يساعدك. قد يكون هذا بسيطًا مثل بدء محادثة صغيرة مع أصدقائك أو معلّميك أو عائلتك أو أي شخص آخر. ولا بأس أيضاً في أن تستخدم مهارات التأقلم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التدوين، والتلوين، وممارسة الرياضة، والجري، والتنفُّس العميق، والكثير غير ذلك. ولعلّ الاقتراح الثالث الذي قد يساعدك هو أن تسمح لنفسك أن تعيش الشعور كما هو عندما تكون “نفْسِيتَك تِعْبانِة” When You Feel Down. لا تُنكِر ما تحسّ به، واعترف لنفسك بأحاسيسِك، فإن الاعتراف بمشاعرك يمكن أن يساعدك في تجاوزها.
في كلّ ذلك، تذكّر أنّك لست وحدك من تعاني. كلُّ شخص في الحياة يعاني مشاكل. هذا لا يعني إذا “فَتَحْتْ قَلْبَكْ” لأحدهم، أنّكَ تُضيف إلى مشاكله عبئاً. أنتَ لستَ عبئاً خصوصاً إذا فعلتَ ذلك مع الأشخاص المناسبين. عند ذاك ستشعر أنّ ثقلًا يُرفع عن كتفيك ويخيّم عليكَ شعور بالارتياح.
إذا كُنتَ لستَ بخير … “معليش”. ليس الأمرُ كارثيّاً. يصبح الوضع غير محمود العواقب في واحدٍ من طرفين: الأوّل أن تعيش حالة نُكران دائمة لحقيقة وضعك وترفض التعبير عن وجعكَ وطلب المساعدة، والثاني أن تغرق في وجعكَ وحزنك وغضبك، فتُصبح هذه المشاعر طبيعتكَ الثانية أو الجديدة.
سمير قسطنطين