ناضَلَتْ المدارس طويلاً لتُقنِعَ النّاس أنّها لا تُعلِّم بقدرِ ما هي تُربّي. وأنا أُناصر هذا الرأي. وتبنّى المعلّمون في أذهانهم فكرة أنَّهم مُربّون أيضاً وليسوا معلِّمين فقط. فالتّعليم يرتبط بالمّادة ومعارفها والمكتسبات النّاتجة عن عمليّة التّعلُّم. لكنَّ التربية مرتبطة بأمرين: القِيَم والمهارات.
فاخَرَ التربويّون اللّبنانيّون ولردحٍ طويلٍ من الزّمن بأنَّ المتخرِّجين من مدارِسِهم يلقون التّرحاب والقبول الكامل في أهمِّ جامعات العالم. وتُعطي كلُّ مدرسةٍ برهاناً على ذلك أسماءَ تلاميذ متفوّقين من بينِ صفوفها قَبِلَتهم جامعات السوربون وهارفرد والـ MIT وغيرها. لكن ما لا تستطيع المدارس أن تُفاخِر به هو ما تراه في سلوكيّات خرّيجيها الذين اختاروا العمل في الشأن العام لجهة موقفهم من النزاهة ومُحاربةِ الفساد. لم تستطِع المدارس، وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذلته في تربية الأولاد، أن تُنتِج في التّلاميذ DNA ضدَّ الفساد. كذلكَ لم تُسجِّل المدارس نجاحاً باهراً في جعلِ صورة المهارات عند الخرّيجين واضحةً وضوح التّفوّق الأكاديمي لديهم.
على مستوى القِيَم، لم ينجح الخرّيجون في عكس صورة القِيَم التي تربّوا عليها في المدارس الرسميّة والخاصّة، وخصوصاً لجهة تظهير قِيَم النّزاهة والصّدق والخدمة العامّة والتّعاوُن ورفض الزّبائنيّة.
هل كان تأثير المجتمع على هؤلاء أقوى من تأثير المدارس؟ ربّما. هل التعاون بين المدرسة والبيت في مجال تعزيز القِيَم كان خجولاً وأدّى بالتالي إلى هذه النتيجة؟ قد يكون ذلك صحيحاً. على ما يبدو، فقد كان صعباً على المدارسِ تربيةَ هذه القِيَم في تلاميذها، والدّليل على صدق ما أقول هو عدم وضوح صورة القيَم في نسبة غير قليلة من الّذين يتعاطَوْنَ الشّأنَ العام في لبنان من رؤساء ووزراء ونوّاب ومدراء عامّين ورؤساء مجالِس بلديّة وغيرهم.
ليس ذلك فحسب؛ تَطلَّعْ إلى هؤلاء الّذين يتعاطون الشّأن العام من زاوية المهارات أيضاً. إسمَعْ ما يقولون. أين اختفَتْ مهارات التّواصُل غير العُنفي؟ هي لا شك في خَبَرِ كان. أُنظُر إلى تقنيّاتهم في حلِّ المشاكل وإدارة النّزاعات. “ما خَصُّن فيها”. ما تسمعه وما تراه مخزٍ بكلِّ ما في الكلمة من معنى.
أعتقد أنَّ النِّظام التّربوي اللّبناني ساهَمَ في تخريجِ عباقرةٍ من النّاحيةِ الأكاديميّة، لكنّه لم يُساهم بالشّكل الكافي والواضح بتخريج تلاميذ لهُم من سُلَّمِ القِيم Value System ما يكفي ويفيضُ لكي يظهرَ بوضوح للملأ، ولم يُنشئوا لتلاميذهم بالشكل الكافي برامِجَ تدريب وتنمية للمهارات والتّقنيات.
في هذه المرحلة بالذّات يبدو طرحَ هذا الموضوع صعباً. فهمُّ إدارة المدارس الأوّل تسديدَ معاشات معلّميها ومعلّماتها، وقلقُ الأهل الأكبر تسديدَ جُزءٍ من الأقساط المدرسيّة، وهمُّ المعلّم وهو مُعيلٌ لعائلةٍ، بات تأمينَ عيشٍ كريم يكاد يكون مستحيلاً بالنّسبة له.
هل فَشِلَ النّظام التّربوي في إحداثِ هذا الفرق؟ لعلَّهُ كذلك، إنّما الوقت الآن ليس وقت مساءلة بقدرِ ما هو وقتُ تأمُّلٍّ في ما حصل والمساهمة في الخروجِ من هذا النّفق المظلم، والبِنَاء على كلِّ ما هو جديد. لكن إذا قُدِّرَ لنا أن يكونَ لنا لبنانَ جديداً، فَمِمّا لا شكَّ فيه أنَّ التّربيةَ على المهارات باتَتْ أمراً أكثرَ من مُلِحّ، ولعلّني أجرؤ على القول بأنّه بات مشروعاً أكثر أهميّة من تزويد التّلاميذ بالمعارِف التّربوية.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات