في حياتنا اليوميّة، يتوقّع الناس منّا أن نتصرَّفَ بطريقة معيّنة، ونقولَ أقوالاً معيّنة. هذا ليس غريباً، إنّما الغريبُ هو أن تكونَ توقّعاتِ النّاس منّا على مستويين نقيضَيْن.
خُذْ مثلاً قيادة الأركان في أيِّ جيشٍ. هي تتوقّع من الضابطٍ أن يكونَ أسداً في الشارع في الخضّات الدّاخليّة، وبطلاً على الجبهات في الحروب الخارجيّة. لكنّها تتوقّعُ منه أيضاً أن يُنفِّذَ الأوامر على قاعدة “نَفِّذْ القرارات ثمّ اعترِض”، فلا تعطيه حقَّ مناقشتها.
تَفَكَّر بمدير مدرسةٍ يتوقَّع من المعلم أن يضبط سلوكيّات التلاميذ المشاغبين. لكن مدير المدرسة يستاء من المعلم “الضابط الكلّ” في الصف إذا هو طالَبَ الإدارة بحقوقه.
خُذْ مثلاً آخر، الزّوجة. هناك زوجةٌ تريد أن يَكُون زوجُها قويَّ الحضور في المجتمع، محبوباً من النّاس، و”مِنْشاف”. زوجةٌ كهذه “بِتْجِخْ” بزوجِها، لكنّها تتوقَّع منه ألا يُخالِفَ إرادةً لها، وأن يسايرها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة. ولئلّا يأتيني اللّوم سريعاً أقول إنّ هناك رجالاً “يُفشِّخون” بزوجاتِهم في السّهرات و”الضهرات”، لكنّهم يتوقّعون أيضاً من زوجاتهم أن يَكُنَّ مِطواعات لهم في البيت.
خُذْ الزّعيم مثلاً آخر. هو يريدُ من وزيرٍ عَيَّنَهُ أو نائبٍ تبنّاه على “اللّيستة”، أن يُدليَ بتصريحاتٍ ناريّة ويُقاتلَ كلَّ النّاسِ من أجله. لكنَّ الزعيم يتوقّعُ من النّائب أو الوزير أن يكونَ نعجةً أمامه لا يُخالِف رأيه على الإطلاق، وإلّا فصله المكتب السّياسي من الحزب.
خُذْ الأهل مثلاً. هُم يعلِّمون إبنهم كيف يُجيبُ المعلّمة إنْ هيَ استعملتْ معه عباراتٍ يعتبرها أهله غير لائقة. لكنَّ هؤلاء الأهل الّذين يريدون ولدهم بأن يكون جريئاً إلى درجةِ الوقاحة، يستاؤونَ منهُ إن هو لم يلبس في الشّتاء الكنزة الّتي تُدفئه بحسب ما تقترحه الأم، أو إن هو استحمَّ وخرج إلى بلكون البيت مخالفاً إرادتها.
لماذا تكون التّوقّعات منّا على مستويين مُختلفَين؟ في كلِّ مرَّةٍ يحصُل ذلك، فَتِّش عن السّلطة، وكيفيّة ممارسة السّلطة. أعودُ إلى الزّعيم. عندما كان خارجَ السّلطة، أرادَ أنصارَه أن يكونوا ثوّاراً وأن يملؤوا السّاحات وأن يُناضلوا، لكنَّه عندما أصبح في السّلطة، صار يعتبر التّظاهُرَ ضدَّ ممارسات السلطة استهدافاً له. ثورة 17 تشرين كَرَّسَت أمثلة كثيرة على هذا الواقع. كثيرون كانوا يطالبون في العلن بتحصيل حقوق ناسِهم. لكن عندما طالَبَ ناسُهم بتحصيل الحقوق بطريقة ثانية، كان التّخوين من نصيبِهم.
ما هو العلاج؟ العلاجُ في الشأن العام والعمل الإداري هو أن ينتقلَ المديرُ بمفهوم السّلطة من حالة “التّسلُّطِ” إلى حالة “الخدمة”. عندما ينظرُ المرءُ إلى السّلطة power الّتي له على إنّها خدمةٌ مجتمعيّةٌ أو مؤسّسيّةٌ، لا تعودُ التّوقّعات خاضعةً لمعاييرِ الإزدواجيّة. تُصبِحُ التّوقّعات من ذاتِكَ ومن النّاس الّذين حولَكَ واقعيّةً. لكنّك عندما تنظرَ إلى السّلطة كموقِعٍ يخوّلُكَ التّسلّط، فما تتوقَّعُ من النّاس وأنتَ في السّلطةِ يختلفُ عمّا تتوقّعه منهم وأنتَ خارجها. وأمّا بالنّسبة للعلاقات العائليّة بين الأهلِ وأولادِهم، فإنَّ ما يحلُّ إزدواجيّة التّوقّعات هو الانتقالُ بمفهوم سلطة الأهل على الأولاد من حالة “التّسلط” إلى حالةِ التّنمية والمسؤوليّة تجاه أولادهم. إذا حصلَ ذلك، تكون التّوقّعات من الولد على مستوىً واحِد، وإذا حصلَ خِلافُ ذلك، فإنَّ التوّقعات تأتي على مستويين وربّما أكثر.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات