سَمِعنا منذ طفولتنا عن نوعين من الإدمان. الأوّل إدمانٌ على المخدّرات، والثّاني على الكحول. ولطالما أدركنا أنَّ الإدمان على هاتين المادّتين مرفوضٌ مجتمعيّاً وقانونيّاً وقِيَمِيّاً. ما هو الإدمان؟ الإدمان هو اضطّراب في الدّماغ يصبح مرضاً مزمناً يتفاقم عندما يتعاطى الشخص مواد من شأنها أن تكون لها طبيعة إدمانية مثل الكحول والكوكايين والنيكوتين.
عندما كَبِرنا بِتنا نسمع عن نوعٍ ثالث من الإدمان، هو الإدمان على الجنس. مع مرور الزّمن، بتنا نسمع عن الإدمان على العمل. ومِن هنا، باتت الكلمة المُستعملة لشخصٍ مُدمِنٍ على العمل هي كلمة “workaholic”. في بعض المرّات، نحنُ نستعمل عبارة “workaholic” لشخصٍ يعمل لساعاتٍ طوال، لكن هذا خطأ شائع، فالـ “workaholic” هو الشّخص الّذي يعمل لساعاتٍ طِوال هرباً من مشاكله وليسَ حُبّاً بعمله.
في زمن البحبوحة اللبنانيّة قبل سنوات سمعنا بعبارة “shopaholic” ومعناها الإدمان على التسوّق، إلى أن صِرنا نسمع في الآونة الأخيرة بنوعٍ آخر من الإدمان، وهو الإدمان على الـ social media حيثُ يُمضي كثيرون من النّاس ساعاتٍ طِوالاً كلَّ يوم مُتنقّلين من الواتساب إلى الإنستغرام إلى الفايسبوك، إلى الإيميل، إلى … هُمْ لا يفقهونَ شيئاً في أمور الحياة، لكنّهم يُضيِّعون وقتهم على وسائل التّواصُل الإجتماعي بشكلٍ كثيف ما يجعلهم مُدمنين على استعمال هذه الوسائل.
لكن هل يقتصرُ الإدمان على هذه الأنواع من الأمور؟ طبعاً لا. هناك أمورٌ يُدمِنُ عليها الإنسان لكنّنا غالباً ما لا نتحدّثُ عنها، ولا نعتبرها نوعاً من الإدمان. أكتفي اليوم بِذِكر ثلاثة أنواع من الإدمان لعلّك لم ترَها في حياتك في إطار الـ addiction.
أولاً، الإدمان على “النَّق”. والنّق هنا بمعنى النّقيق، والّتي نلفظها باللّغةِ العربيّة الدّارجة على شكلِ كلمة “النّأ”. هناك أشخاص في اللّحظة الّتي تراهم فيها يبدأون بالنّق. يكفي أن تسألهم: “كيف الحال؟”. ما إن تنتهي من طرحِ سؤالِكَ حتّى يبدأوا بالنّق والنّقيق. يُجيبونك أجوبةً تشعر وأنتَ تستمِعُ إليها “وكأنّو قلبك طربأ”. لا يعجبهم العجب. قد تقولُ لي وهل هذا نقٌّ أم إدمانٌ على النَّق؟ عندما يُصبِحُ النّق حالةً يوميّة لا بل حالةٌ لحظويّة، وعندما يكون النّق جواباً عن أيِّ سؤالٍ تطرحه على الشّخص المعني، وعندما يكون هذا الشّخصُ بنقِّهِ ونقيقه يهرب من وضعٍ لا يريدُ أن يَجِدَ حلّاً له، فإنّما بذلك تكون كل عناصِر الإدمان قد تَوَافرَت، وبالتّالي فإنَّ النّق يُصبِحُ إدماناً.
النّوع الثّاني من الإدمان الّذي قد لا يخطُرُ ببالِك هو الإدمان على الحُزن. أنا لا أتكلَّمُ هنا عن حُزنِ شخصٍ فَقَدَ عزيزاً على قلبِه، ولا عن حُزنِ امرئٍ فَقَد وظيفته أو رزقِه أو ثروته. أنا أتكلَّم عن شخصٍ لا يعاني أيّاً من هذه المشاكل. أتكلَّمُ عن شخصٍ ميّالٍ في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياتِه إلى الحزن. يكونُ في مزاجٍ هادىء وفي لحظةٍ يتغيَّر مزاجُه. تحاوِل أن تلاحظ حياة هذا الإنسان، صحّتُه جيدة، طلّتُه لا بأسَ بها، وضعُه المادّي مقبولٌ جدّاً، وضعُه الإجتماعي، أمتزوّجاً كان أم عازِباً، جيّدٌ ومقبول ومحترم. في مسارِه المهني هو يؤدّي وظيفة محترمة في مؤسّسةٍ محترمةٍ أيضاً. مع ذلك هو حزينٌ في معظم المرّات. نادِراً ما تراهُ يبتسم. ونادراً جداً ما تراه يضحك. تسأله عن حالِه، يجيبُكَ أجوبةً تعكِسُ حُزنَه من مثلِ هذه: “لمّن بوعى عَبُكرا بحس إنّو الله يسترنا بهيدا النّهار.” يردِّدُ عباراتٍ من مِثلِ: “شو في شي بيفرِّح؟” تُحاوِل أن تتحدّثَ إلى هذا الإنسان، وأن تحثَّهُ على تركِ الحزن، لكنّك سريعاً ما تفشلُ في فعلِ ذلك. “الحزن بيخاويه”. كأنّي به لا يرتاح إلّا إذا كانَ حزيناً. هل هو يبغي من وراءِ الحُزن هذا أن يستدرَّ عاطِفتك وشفقتك؟ ربّما. هو في الواقع يعيش حالةً دائمة من الشّفقة على الذّات، أي self-pity. الحزن عنده يصبحُ إدماناً ولا يريد له العلاج.
النّوع الثّالث والأخير من الإدمان، هو الإدمان على “التّخليق”، أي التّكلُّم بقساوة إلى من يوجد قبالته. “التّخليق” يُصبِحُ عادةً. عندما يتكلَّمُ معك عن أي موضوع “بْيِنْبُر نَبِر”. لا يستطيع أن يتكلَّم بشكلٍ طبيعي أو عفوي. إذا سألته سؤالاً، “بيِنْبُر”، وإذا بادَرَ هو بالكلام، فإنَّ “التّخليق” سيّدُ الموقف. هو شكلٌ آخر من الإدمان. لا يستطيع هذا الإنسان أن يهجُرَ “التِّنْتيع” في الكلام.
هذه الأنواع الثلاثة من الإدمان تُشبِهُ كلَّ أنواع الإدماناتِ الأخرى مِن مثل الإدمان على المخدّرات والكُحول والجِنس والتسوّق، وغيرها. عادةً لا يمكنُ للمرءِ أن يُقلِعَ عن الإدمان من دون علاج. وفي الحالات الثّلاث الّتي ذكرتُها، النّق والحُزن و”التّخليق”، لا يُمكِنُ للمرءِ أن يُشفى منها من دون علاجٍ، خصوصاً عندما تستفحِلُ وتتملَّكُ في الإنسان وتُصبِحُ طبيعةً ثانيةً. لكنَّ المعالجة في هذه الحالات هي معالجة نفسيّة على يد عالِم نفس يُصغي إلى هذا الشّخص ويتعرَّفُ إلى أسباب الوصول إلى حالةٍ كهذه ويُعطيه تقنيّات للإستعمال تَقِي هذا الشّخص النتائج السّلبية لهذه الأنواع من الإدمان. من دون عِلاجٍ جِدِّي وسريع فإنَّ الموضوع قد يذهبُ من سيّء إلى أسوأ.
سمير قسطنطين