قبل سنتين انقلب لبنان رأساً على عَقِب. ما أخفتهُ السّلطة السّياسيّة عن النّاس لسنواتٍ طويلة انكشفَ بين ليلةٍ وضُحاها ولم يبقَ “ستر مخبّا”. في تلك المرحلة بدأ لبنان يهتزّ ولم تنفعْ مُسكِّنات الدّعم الّذي بدورِه غذّى الفساد. اهتزَّت المؤسّسات مع ثورة البلد. احتُجِزَت الأموال في المصارِف ولم يَعُد الدّولار عُملةً صعبَة فحسبْ، بل أصبحَ عُملة نادرةَ الوجود.
المرحلة الأولى إذاً لهذه المؤسّسات كانت “مرحلة البقاء” أي الـ survival. كان الاستمرار الهمَّ الأساسي عندَ المصرَف والمدرسةً والشركة التجاريّة ومحلّ البيع. قضَّ المضاجع حينها أسئلةٌ مثل: “هل سنبقى في السّوق؟ كيف نستمرّ؟ ما هو الأفضل لنا ليكون لنا غدٌ؟” لم يكُن لدى المؤسّسات الجواب.
المرحلة الثّانية بدأت مع تّفشّي فيروس كورونا حين أقفلت الدّولة اللّبنانيّة المدارس مطلع آذار من العام 2020. وقتها لجأت الدّولة إلى إجراءاتِ منع التّجوُّل، إقفال المطاعم، أذونات الخروج من البيت، وضع الكمّامات في الأماكن العامّة، سيرُ السّيارات على قاعدة المفرد والمجوز لأرقام اللّوحات. هل تذكرون تلك التّدابير؟ بالنسبة للمؤسّسات، كانت هذه المرحلة “مرحلةُ الإبقاءِ على الشّركاء”، وأعني بهم “الزّبائن”. المصرف سأل نفسه: “كيف أُحافِظ على زبائني؟”، وخصوصاً عندما أسرَعَ النّاسُ إلى فروع المصارف الّتي يتعاملون معها ليسحبوا منها كلَّ الودائع. المدارس سألت: “كيف أحافظُ على تلاميذي” مع انهيارِ القوّة الشّرائيّة للمواطنين، ورغبة عائلاتٍ كثيرة في نقل الأولاد إلى المدرسة الرسميّة أو حتّى في الهجرة. في تلك المرحلة كان الهمُّ “كيف أحافِظُ على زبائني؟” عندها وَفَّرَت المؤسّسات، ومنها السوبرماركت حتّى، فرصةً للمواطنين لشراءِ بضائعهم عبرَ منصّات إلكترونيّة، الأمر الّذي بدا غريباً في البداية. كذلكَ فَعَلتْ محلّات بيع الثّياب. أمّا المدارس فقد بدأت توفير الخدمة التّربوية للتلاميذ عبرَ منصّات التّواصُل الاجتماعي. في البداية اقتصر الأمر على “غروبات” الـ WhatsApp، وما لبِثَ الأمرُ أن تطوَّرَ فدخلت منصّتا الـ Microsoft Teams والـ Zoom إلى ميدان المعركة. وتحوَّلت الدّراسة من حضوريّة إلى online.
المرحلة الثّالثة هي الآن، وقد بدأت في الرّبيع الماضي حين فكّر عددٌ كبيرٌ من العاملين في لبنان جديّاً بالسّفر إلى الخليج أو دُوَلِ إفريقيا أو حتّى بالهجرة. فجأةً قدَّمَ آلاف المعلّمين والمعلّمات استقالاتهم من المدارِس. أمّا الشّركات والمصارِف، فإنَّكَ في كلِّ مرَّةٍ تذهبُ إلى واحدٍ منها، تفتقدُ أحدهم. تسألُ عنه فيأتيك الجواب بأنَّهُ سافر إلى بلدٍ آخر. لذا فإنَّ عنوان المرحلة الحاليّة في المؤسّسات هو “الحفاظ على الموارد البشريّة”. المرحلة ستمتدُّ حتّى منتصف الصّيف. قد يقول قائل: “فليذهب من يريدُ الذّهاب ونحنُ نأتي بغيرِهِ”. هذا صحيحٌ نظريّاً أمّا عمليّاً، فماذا يمكنكَ أن تفعل عندما يترُكُ مؤسّستَك النّاس المخضرمون الّذين تعبْتَ معهم واستثمرتَ فيهم جُهداً ومالاً لكي تُطوِّرَ مهاراتهم؟ لذا فإنَّكّ الآنَ مدعوٌّ لكي تفعلَ كل ما تستطيع وبشكلٍ creative and critical للحفاظ على الموارِد البشريّة، وخصوصاً النُخب منها، لأنَّ هؤلاء ساهموا بشكلٍ أساس في نموِّ المؤسّسة واتّساعِ أفقِ عملها وجودة الخدمات الّتي تقدِّمُها. هذا التّحدّي ليس سهلاً. قصيرو النّظر قد يعتبرونه عابِراً وقد ينظرون إلى تحدّي استمرار المؤسّسة على أنَّه أكثر أهميّة. لكنَّ أيَّ عاقلٍ يستطيعُ أن يُدرِك أنَّ لا مؤسّسات ولا مؤسِّسين ولا مَأسَسَةً يمكنُ أن توجد من دون الناس. الموارِدُ البشريّة، وعلى رغمِ تقدُّمِ التكنولوجيا بشكلٍ هائلٍ، ما زالت في كلِّ المؤسّسات العملاقة الموردَ الأكثر أهميّةً من بين كلِّ الموارِد الأخرى كالموارِد الماليّة والموارِد التكنولوجيّة.
تحدّثتُ عن ثلاثِ مراحِل، “مرحلة البقاء”، و”مرحلة الحِفاظ على الشّركاء” أي الزّبائن، و”مرحلة الحفاظ على الموارِد البشريّة”. لكنَّ المرحلة الثّالثة ستنتهي خِلال تسعة أشهُرٍ لأنّ الناس ستكون قد حدّدت خياراتها. عندها تبدأ المرحلة الرّابعة والأهم وهي “مرحلةُ الانطلاق من جديد” ووقوف المؤسّسة الكامِل على رجليها من جديد والذّهاب full speed نحو أسواقٍ جديدة، وشركاءَ جُدُد، وخدمات جديدة، واستراتيجيّاتٍ جديدة. لا يمكن الوصولُ إلى المرحلةِ الرّابعة من دون عبور المراحِل الثّلاث السّابقة بشكلٍ ذكي واستراتيجي ومَرِن على الرّغمِ من كلِّ الصّدمات الّتي تلقّتها المؤسّسات.
هل اجتازت مؤسّستك مرحلة البقاء؟ بعضُ المؤسّسات لم تجتَز هذه المرحلة لذا لم نَعُدْ نراها موجودةً وللأسف. هل عَبَرَتْ مؤسَّستك مرحلة الحِفاظِ على الزّبائن؟ إذا كُنتَ قد اجتزتَ هذه المرحلة بعلامة assez bien، فلا بأس. لكن عليكَ أن تنطلِق من جديد نحوَ ما خسرتَه من شُركاء لتُعيدَ بناءَ العلاقة من جديد. هل اجتازَت مؤسّستَك مرحلة الحِفاظِ على الموارِد البشريّة؟ أعتقِد أنَّ كلَّ مؤسسةٍ تتخبَّطُ الآن في هذا التّحدّي وأنتَ مدعوٌّ إلى أن تكون مُبتَكِراً. والسّؤالُ الأخير هو: “هل تستعدُّ للمرحلة الرّابعة وللانطلاقة الوثّابةِ الجديدة؟”
قد تقولُ لي” “أيُّ انطلاقةٍ تتحدَّثُ عنها في هذا الانهيار؟” وأنا أقولُ لكَ: “إذا كان هذا هو الـ attitude الّذي في داخِلِكَ، وإذا كان هذا هو الـ frame of mind الّذي في ذهنِكَ، أنصحُكَ وبكلِّ تواضع ومحبَّةٍ واحترام أن تنسحِبَ الآن من السّباق، لأنَّ الانسحاب في وقتٍ لاحق سيكونُ أكثر وَجَعاً. أتمنّى من كُلِّ القلب ألّا تفعلَ ذلِك، وأن تضعَ نُصب عينيك المرحلة الرابعة، لعلّها باتت قريبة، وهي تنتظر أمثالكَ … الناجحين.
سمير قسطنطين