منذ سنتين واللبنانيّون يعيشون ظروفاً إستثنائيّة يقول عنها كثيرون إنّها لا تشبه أيّ ظرفٍ آخر عاشه اللبنانيّون في العقود القليلة السابقة. البعض انهار وبقي هنا، والبعض الآخر استسلم وقرّر الرحيل إلى بلدٍ آخر، والبعض الثالث رحل Already، والبعض الرابع قرّر البقاء هنا بغضِّ النظر عن قساوة الأيّام. لكنّ أحداً غير مرتاح إلى ما آلت عليه الأمور.
الذين رحلوا يسألون الباقين هنا: “لماذا لا تتركون البلد”؟ “ماذا تنتظرون”؟ “ألا تريدون وطناً أفضل لولادكم”؟ بعض الباقين يودّون لو يرحلون لكنّهم لا يجدون إلى الهجرة سبيلاً. إلّا أنّ البعضَ الآخر قرّر البقاء هنا ومواجهة الوضع ولو بالّلحم الحي. وكلُّ واحدٍ من هذه الفئة الأخيرة له تبريرٌ أو أكثر للبقاء في لبنان.
معظم الباقين يضعون صمودهم هنا في إطار ما نسمّيه باللغة الإنكليزيّة الـ Resilience أو الذي أجمع الجميع على ترجمته بـ “المرونة النفسيّة”. لكنّ السؤال الذي يخطر ببالي هو: “كيف أعرف أنّني باقٍ هنا لأنّي Resilient حيال ما يجري حولي؟ ومتى يصبح هذا الـ Resilience “تمسحةً”؟ متى يكون صمودي بطولةً وموقفاً فاعلاً وبالتالي يمكن اعتباره Resilience؟ ومتى يكون بقائي هنا حالةً غير صحيّة نفسيّاً وهو بالتالي “تمسحةً”؟
اللبنانيّون استعملوا عبارة “تمسحة” ومشتقّاتها لفترة طويلة من الزمن بإطارٍ فكاهي. يقولون عن أحدهم “ممتمسِح” أي لا إحساس له، أو “ما معو خبر” أو ما شابه. لكنّ “التمسحة” ليست نكتة. “التمسحة” هي عندما نصل إلى درجة نتكيّف فيها مع الوضع لدرجة الاستسلام فلا يعود لدينا التحفيز أي الـ Motivation، ولا الأهداف ولا القدرة على التحرّك. نحن “نُتَمسِح” في ظروف عديدة. نفعل ذلك عندما لا يكون الوضع مرتبطاً مباشرة بي وحدي، وتحديداً عندما يكون الوضع أكبر مني بكثير، وتغييره لا يتعلّق بقدراتي وحدي. ونحن “نتمسح” في بعض المرّات عندما نعبّر عن أفكارنا حول موضوعٍ معيّن بشكلٍ إيجابي أمام شخصٍ أو جماعة، ونتلقّى في تلك اللحظات مواقف إيجابيّة من الآخر، لكنّنا نرى أنّ أيّ تغييرٍ في الوضع لا يحصل. “نُتمسِح” عندما يتكرّر هذا الأمر وتطول مدّة الظروف الضاغطة فتتكرّر وتتكرّر ولا نستطيع أن نفعل شيئاً حيالها.
في المقابل، إذا حصلت كارثةٌ ما لمرّة واحدة وتعاطَينا معها بشكلٍ جيّد فهذا Resilience لكن إذا تكرّرت وقبلنا فهذه “تمسحة”. التمسحة هي فترة نختبرها في أثناء الـ Resilience، لكن عندما نصل إلى حالةٍ نفقد فيها كلّ نوع من الحماس ونفقد الأمل في التغيير، فنحن في “التمسحة”. لكن طالما لدينا نسبةً عالية من الحماس والإيجابيّة فنحن في الـ Resilience. “التمسحة” هي مرحلة إمّا ننتفض في نهايتها ونذهب من جديد إلى تجديد الأهداف والعزيمة، أو لا نفعل ذلك فنذهب إلى الإحباط.
هناك مجموعة كبيرة من اللبنانيّين بذلوا جهوداً في لبنان وأرادوا البقاء هنا واستثمروا هنا. الآن استسلموا. يشعرون “إنّو لبنان ما في أمل” أو “لشو الواحد يبقى هون”، وفي الوقت نفسه هُم غير قادرين على اتّخاذ أيّ قرار. فقدوا الحافز للعطاء والاستمرار والتحدّي. هذا “تمسحة”، إذْ أنّهم في هذه المرحلة التي يعبرون فيها فقدوا الإيجابيّة، وبالتالي الـ Resilience. قسمٌ كبير من اللبنانيّين فقدوا الحماس “تيشتغلوا على حالن”، فقدوا الإيجابيّة – وأنا أفهم -، فقدوا الطاقة للحركة. هؤلاء باتوا في “التمسحة”، وهذا ما قد يؤدّي إلى ما لا تُحمد عُقباه نفسيّاً وذهنيّاً وشعوريّاً. المهم ألا نبقى في مكاننا، وأن تبقى لنا قوّة صنع القرار وتحديد الخيار بغضِّ النظر عن ماهيّة القرار ومآله. عندما نفقد ذلك، نحنُ في خطر.
سمير قسطنطين