تكونُ خارج لبنان. تُريدُ العودةَ إليه. تأتيك “المنصّةُ” على طبقٍ من زِفت. تُلزِمُكَ بدفع ثلاثين دولاراً fresh ثمناً للـ PCR الإلزامي في المطار العربي الوحيد الذي يفعل ذلك، مطار رفيق الحريري. هذا هو المشهدُ الأوّل. مشهدٌ يُشبه “التنصيب” ويُشبه احتقارَ المواطِن اللّبناني الّذي يُفتِّشُ عن رِزقِهِ خارِج لبنان. من يسافر في هذه الأيام من أجلِ السّياحة؟ لا أحد. الكلُّ يُسافِر لكي “يسترزق”. تأتي دولتُنا العليّة، تنظُرُ إليكَ كغنيمةٍ تستحقُّ السّبي. ترى فيكَ موضوعاً مشروعاً للسّرقة. هذه ثقافتُها منذُ زمنٍ بعيد. أستطيعُ أن أفهم أنَّ الدّولةَ اللّبنانيّة تُريد أن تضمنَ سلامة المواطنين. أستطيعُ أن أفهم أن تُلزِمهم مثلاً أن يُجروا الـPCR قبلَ صعودِهم إلى الطّائرة بأقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة. وأستطيعُ أن أفهم إنْ هي ألزَمَتهم بأخذِ جُرعتَين على الأقل من اللّقاح. وأستطيع أن أفهم أن تتشدَّد الدولة اللبنانيّة في مسألةِ عدمَ وصولِ أشخاصٍ ينقلون العدوى إلى المطار. كلُّ هذا أفهمُه. لكن أن تستولي الدّولة اللّبنانيّة على أموالِكَ عُنوةً، فلا أعتقِد أنَّ هناك تبريراً طُبيّاً يُبرِّرُ هذا الغزو لجيبِكَ، وما “أشطر” دولتنا العظيمة في الغَزوات الّتي يكون واحدٌ من أهدافِها الأساسيّة النّهبَ والسّرقة. هذا هو المشهد الأوّل وفيه “تْسُلبُطْ” فريدٌ من نوعه.
المشهدُ الثّاني مناقضٌ تماماً للمشهد الأوَّل. المشهد الثّاني هو ما يُطالعك في مطار بيروت حالما تتخطّى نقطةَ “الأمن العام” وختم جوازات السّفر. عندَ خروجِكَ من هناك، تجِدُ أمامك حوالى عشرة شبّانٍ وشابّات في خِيَمٍ صغيرة الحجم يجرون فحص الـ PCR الإلزامي لك. من الضّروري أن تسمعَهم يتكلّمون معكَ ومع سائر النّاس الآتين. العمليّةُ مُنظَّمةٌ بشكلٍ عالٍ تماماً. هناك شخصان على الأقل يُرشِدانك إلى الخيمة الّتي يجب أن تدخُلَ إليها. يتحدّثانِ إليكَ بلُطفٍ زائد. تدخُلُ الغرفةَ. يستقبِلُكَ شخصٌ ببسمة وبلطفٍ وبترحيب. يُتقنون لغةً أجنبيّةً واحدةً على الأقل إنْ توجّهتَ إليهم بلغةٍ أجنبيّة. تُعاملهم بلطف، ويعاملونك بلطفٍ أكبر. لا أُخفي عليكم أنَّ بعضاً من النّاس “بِيفِشْ خلقو فِيُن” بسبب كلفة الفحص. أنا أفهمُ النّاس عندما يفعلون ذلك. لكن هؤلاء الشّباب والصّبايا لا دخلَ لهم في قرارِ الدّولة اللّبنانيّة لا من قريب ولا من بعيد. هُم طُلّابٌ في الجامعة اللّبنانيّة. لا أدري إن كانوا طُلّاب كليّة الصّحة العامّة أو كليّة الطّب أو كِلتَيْهما. ليس مُهمّاً إلى أيّةِ كليّةٍ ينتمون. المهم أنَّهم يُظهِرون وجهاً مدنيّاً نادِرَ الوجودِ في لبنان. عندما تذهبُ إلى دوائر الدّولة العليّة، فإنَّكَ نادراً ما ترى أشخاصاً مُحترِفين، تواصلُهم معك محترِفٌ وخدمتُهم لكَ مُحترِفة. لكن مع طلّاب الجامعة اللّبنانيّة هؤلاء ترى احترافاً نادِراً، واحتراماً نادراً، وبسمةً نادرةً يُقدِّمُها مرءٌ يقوم بعمله لصالِح الدّولة اللّبنانيّة. يستحقّون الثّناء من كلِّ القلب. هؤلاء لا دخلَ لهم بزَعَلِ النّاس، ولا علاقة لهم بـ “تنصيبة” الدّولة. هؤلاء أولادُ عائلاتٍ كريمة وقلوبُهم ووجوهُهم تضجُّ حياةً وبريقاً. لا أدري إن كان هناك وجهٌ مدني رسميّ في لبنان يُطلُّ عليكَ في هكذا شكلٍ ومضمون.
مشهدان متناقِضان، واحدٌ مُقزِّزٌ يُشبِهُ السلطة، وواحِدٌ يُفرِحُ القلب ويُثلِجُ الصّدر، يشبهُنا نحنُ اللّبنانيّين الصّامِدين الّذين لا حول لنا ولا قوّة إلّا بالله العليِّ العظيم.
سمير قسطنطين