يستعمل اللبنانيّون، ومن بينهم المسيحيّون، هذه الأيّام لُغةً فيها إحباط. يقولون لكَ إنّ الزمن تغيّر، وإنّ لبنان لم يعُدْ ذاك الـ “لبنان” الذي عرفناه. قد يكون الكلام عن تغيُّر لبنان صحيحاً، وقد يكون مُبالَغاً فيه، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ لبنان ازدهر في الماضي عندما آمن اللبنانيّون به وتحديداً الموارنة.
عندما آمن الموارنة بلبنان وضعوا رؤيا لهذا الـ “لبنان”، أحبَبْنا هذه الرؤيا أم لم نحبّها. وضَعوا نموذج “لبنان الكبير” الذي خدمَ “عسكريّته” مئة سنة بغضّ النظر عن نجاح أو فشل هذه الخطوة. اليوم لا رؤيا للبنانيّين ومن بينهم الموارنة حول لبنان الآتي. لعلّهم يعرفون بعض ما يريدونه ويجهلون البعض الآخر، لكن لا رؤيا واضحة مكتملةَ المعالم. الشيعة يحاولون أن يضعوا هذه الرؤيا على الرغم من ضياعِهم في مجال أيِّ لبنان يريدون. قد تقول لي إنّهم يريدون أن يحكُموا لبنان. سأوافقك الرأي، لكن من منّا يعرف أيّ لبنان يريدون؟ في مرحلة ضعفِ لبنان، وفي ظلّ الحالة الإقليميّة المُعزِّزة لدورِهم، تراهم يحاولون نَحْتَ لبنان لكي يُشبهَهم في السياسة والعسكر تحديداً، لكنّهم حتّى الساعة يصطدمون بطرق مسدودة عديدة على الرغم من ضعفِ كلّ الطوائف.
عندما آمن الموارنة بلبنان اشتروا الأراضي وفي أصعب الأوقات. قد ينتقدُ البعضُ الشيعةَ الذين يريدون أن يتملكّوا الأراضي إلى شمال طريق الشام باتّجاه الحدث وكفرشيما وفرن الشبّاك، أو أن يشتروا في الشوف. أتعلم لماذا يفعلون ذلك؟ لأنّهم يؤمنون بأنّ لبنان لهم. لذا يشترون الأراضي. هل تعلم أنّ الموارنة، وفي كلِّ مرّةٍ كانوا يرتاحون فيها من حربٍ تُشنُّ عليهم، كانوا يسارعون إلى شراء الأراضي والتوسّع؟ كانت خسائرُهم في الحروب جسيمة، لكنّهم سريعاً ما كانوا يبادرون إلى شراء الأراضي والبناء.
عندما آمن الموارنة بلبنان لم يختاروا الهجرةَ الجماعيّة وإن كانت الهجرةُ خياراً دائماً لهم في زمن الإضطهاد. مماحكاتُ هذه الأيّام أقلّ بكثير من إضطهادات ذلك الزمن. خُذ مثلاً ثلاث حروبِ إبادةٍ شنّها المماليك ضدّهم في القرنَين الثالث عشر والرابع عشر متّهِمين إيّاهم بدعمِ الغزوات الصليبيّة. لكنّهُم لم يتركوا ويرحلوا. كانوا يُشبهون في مقاومتهم ما يفعله الشيعة الآن. وكانوا في كلِّ مرّة تهدأ الأحوال، يبدأون بالتنسيق مع الغرب لتطوير أنفسهم.
عندما آمن اللبنانيّون وتحديداً الموارنة بلبنان استثمروا فيه. اشتروا الوكالات، وبنوا مستشفيات ومصانع ومصارف ومدارس وفنادق وجامعات وأدياراً. عصر الازدهار كان في القرنَين السابع عشر والثامن عشر. لم تكن هناك حروب في ظلّ الإمارتَين المعنيّة والشهابيّة في إطار الدولة العثمانيّة. في هذه الفترة وصل الموارنة إلى الشوف وأقصى الجنوب بفضل الاستقرار، وتأسيس الرهبانيّات في تلك الفترة، والتفاهم الماروني-الدرزي.
في هذا الزمن أرى الشيعة مؤمنين بلبنان. يشترون الأراضي، يبنون المؤسّسات. لا تقُل لي إنّ السلاح هو السبب. هُم فعلوا ذلك أوّلاً في بيروت قبل قوّة السلاح. فعلوه في رأس بيروت والبسطة ورأس النبع والخندق الغميق.
اللبنانيّون والموارنة تحديداً الذين اخترعوا “لبنان الكبير” مدعوّون إلى تحديد وتجديد علاقتهم بلبنان. لا أعتقد أنّ لبنان تغيّر بقدر ما تغيّرت الأولويّات. المطلوب رؤيا للبنان لمئة سنةٍ تُعيدنا إلى الزمن الذي آمن فيه الموارنة بلبنان.
سمير قسطنطين
الصورة في “النهار” للزميل نبيل اسماعيل
أحدث التعليقات