في الأحداثِ والجرائم الكبيرة مثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانفجار المرفأ وأحداث الطيّونة وخلدة، ترى أُناساً يُصرّون بشكلٍ شرسٍ وثابت على تقديم من “يظنّونه الجاني” إلى العدالة فوراً مستبقين التحقيق القضائي، وترى في المقابل أشخاصاً يكادون أن يكونوا غير معنيّين، ولا يريدون أن يفتحوا “بواب مغلّقة”. هذا ما حصل في الأحداث المذكورة.
لكنْ هناك جريمتان لم يفتح أحدٌ من الأحزاب فَمَهُ بالشكل الوافي لإدانة المُرتكبين. الجريمة الأولى هي جريمةُ التّهريب عبرَ المعابِر والّتي استمرَّت مهزلتُها ثمانية عشر شهراً نزفت فيها الخزينة اللّبنانيّة أيَّ نزيفٍ. كمّياتٌ هائلة من البنزين والمازوت المدعومَين من جيوبنا عبرَت الحدود اللّبنانيّة السّورية. قد تقولُ لي: “بلى، لقد سمَّت الأحزاب الجهات الّتي غطَّت التّهريب.” هذا جزءٌ من الحقيقة. فالأحزابُ وجَّهت اتهاماً باتِّجاهٍ واحد هو حزبُ الله. أنا لا أُبرئ الحزبَ. لكنّي أريدُ أن أقول إنَّ العاقل يُدرِك أن لا سلطة للحزبَ على كلِّ المعابر في كلّ المناطق. تستنتج أنَّ أكثر من جهة لبنانيّة انغمست في أعمال التّهريب. لكن راجِع الصُّحف واصغِ من جديد إلى نشرات الأخبار المحفوظة على مواقع الانترنت. لن ترَى مكتباً سياسيّاً واحداً لحزبٍ واحد سمّى كلَّ الّذين هرّبوا، وهُم كُثُر. كذلك لم أرَ لا وزير مال ولا وزير اقتصاد ولا رئيساً لحكومةٍ أو لغيرِ حكومة سمّى في مؤتمرٍ صحفي أسماء كلِّ الأحزاب الّتي عرَفت بالتّهريب أو هرَّبَتْ أو سَتَّرَتْ على التّهريب. ولم أسمع مسؤولاً أمنيّاً واحداً كان جريئاً لدرجةٍ أن يقولَ بالفمِ الملآن من هي الجهات الّتي هرَّبت. كلُّ الكبار في لبنان من أفرادٍ ومؤسّسات وأجهزة يعرفون بالتّمام من هَرَّبَ وعلى أيِّ معبرٍ وعددَ الصّهاريج ومتى عَبَرَت وإلى أين وبمواكبةِ من. لكنَّ أحداً لم يسمِّ الجميع، وكأنَّ اتفاقاً سرِّياً بين كلِّ الأقوياء في لبنان جرى للبقاءِ صامتين.
الجريمة الموصوفة الثّانية الّتي اتّفقَ الجميعُ على طمسِها هي الحاصلة الآن، المساسُ الخطير بالاحتياط الإلزامي من العُمُلات الأجنبيّة لمصرفِ لبنان. فجأةً باتت منصّة “صيرفة” قادرة على تأمين الدّولارات fresh وبكميّات تخطّت السبعين مليون دولار يوميّاً لإبقاء سعر صرف الدّولار معقولاً. البنك المركزي أتى فجأةً بالأموال من الاحتياط الإلزامي الّذي لا يحق لا للمصرف ولا للحكومة أن يمسَّاه. الآن يبلغ هذا الاحتياط ثمانية مليار دولار أميركي بعد أن كان قبل شهور خمسة عشر ملياراً. لماذا صمَت الجميع؟ لأنَّ الأحزاب والأقوياء في البلد ومن دون استثناء، والحكومة معهم يريدون أن يهدرَ مصرف لبنان هذا المال فلا يرتفع الدولار قبيل الانتخابات النّيابيّة لئلّا تزيد النقمة. الكلُّ وأعني الكل يفضّلون أن يُفلِسَ مصرف لبنان بعد أربعة شهور وأن نبلغَ قعر جهنَّمِ مالياً على أن يخسروا موقِعاً نيابيّاً. عينُهم الآن على تسييل الّذهب الذي سيكون مصيرُه مصيرَ الـfresh money المطروح حاليّاً في الأسواق.
مع كلُّ جريمةٍ من يوم اغتيال الرّئيس الحريري إلى اليوم، كنتَ تَجِدُ بين السّياسيين من هو مع إطلاق يد القضاء بشكلٍ كامل، ومن هو متريِّث أو مُشكِّكٌ في القضاء. هاتان الجريمتان فقط، التّهريب عبر المعابر وطرح الدولارات من الاحتياط الإلزامي في الأسواق، اتَّفقَ الجميع على تستير من فعلهما، وإن كانت أطرافٌ تشتُم رياض سلامة وأطرافٌ أخرى تشتم غادة عون.
سمير قسطنطين