تلتبس علينا عبارتا “القائد” Leader و”القيادة”Leadership . نستعملُها يَمنةً ويسرة، فنقول “القائد” العسكري، و”قائد” الطائرة، و”قائد” فريق الفوتبول. هل تذكرون “قادة المحاور” في طرابلس؟ في بلاد غيرِنا، يُطلقون على قائد الطائرة إسم البايلوت، وقائد الفريق “الكابتن”، وقائد الجيش “الكوماندور”، وقائد المحور هو الخارج على القانون. أما عبارة القائد بمعنى Leader فهي لا ترتبط هناك بموقع إداريّ أو عسكريّ أو مهنيّ.
القائد في عالم السياسة هو غير الزعيم. قد يختار الزعيم مثلا أن يبقى واقفاً على الدرجة الأولى من سلّم القيادة الحقيقي وهي الزعامة، فلا يرغب في الانتقال إلى القيادة بمعناها المحترف. يقول لي أياكوكا، الذي عيَّنَته شركة كرايسلر في العام 1984 رئيس مجلس إدارتها، لينقذَها من الانهيار آنذاك إِنَّ “القيادة تعني أن تكون مثالاً”. ويقول بيتر دراكر علّامة عالم إدارة الأعمال إنّ “القيادة ليست أن تكون جذّاباً، بل هي القدرة على رفع رؤية الناس إلى مستويات أكثر وضوحاً، والقدرة على مساعدة الذين حولك لبناء شخصيّات أبعد من حدودها الطبيعيّة”. القيادة شخصيّة واستراتيجيّة مجتمعتان في شخص واحد.
الموضوع معقّد، خصوصاً مع النماذج غير الناضجة التي أمامنا. في لبنان يختلفون على كلِّ شيء ويعجزون عن حلّ أبسط المشاكل. لذا نحنُ بحاجةٍ إلى قادةٍ تاريخيّين يطالبون بالحقوق من دون إظهار مصلحةٍ شخصيّة في طلباتهم. نحن بحاجةٍ إلى قادة لا يخبروننا عن تشاؤمهم أو تفاؤلهم أو “تشاؤلهم”. “خِدلَكْ هالبِدعة”. نريد قادةً يغيّرون وِجهة إبحار السفينة حين تعرّضها للخطر فلا “ينتحروننا” ولا ينتحرون. نريد قادةً إنتقلوا من مرحلةِ عدّ الحواصل إلى مرحلة إعداد العدّة للإنقاذ. نريد قادة لا يخبروننا بأنّهم غير قادرين، وأنّ خصومهم شياطين. نريد قادةً مبدعين في خلق الحلول وإدارة الأزمات. نريد قادةً يحملون مشروعاً تنمويّاً تكون محاربة الفساد و”تعميم الخير العام” أولويّةً مطلقة فيه.
ولأنّ كلمة “قيادة” تحمل اليوم مفهوماً واحداً هو “التأثير الإيجابي”، لذا نريد قادةً لا يهمّهم إلقاء خطاباتٍ حماسيّة. نريد قادةً قادرين أن يصنعوا تأثيراً إيجابيّاً في حياة الناس الذين حولهم، فيجعلوها أفضل حالاً، لكن ليس بسبب تزفيتهم للطرقات، ولا بفضل إطلالاتهم الناريّة. نريد قادةً يساعدوننا على التفكير بإيجابيّة حول خياراتنا الوطنيّة والاجتماعيّة، وليس زعماء عندما نسمعهم، نفكّر في السفارة التي سنذهب إليها في اليوم التالي ونقدّم فيها طلباً للهجرة. نريد قادةً، عندما يُطلّون مِنْ على شاشة التلفزيون، نشعر بأنّنا أكثر وضوحاً في رؤيتنا، فلا “يُسْوَدِنونُ” الأمورَ أمامنا. نريد قادةً قادرين على الحوار مع آخر يختلف عنهم. السياسيّون في لبنان لا خصوم لهم بل أعداء. تخطّوا مرحلة الخصام “مِنْ زمان”. حقدُهُم يدمّرُهم وينهك البلد والعباد. نِلسون مانديلّا الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا الذي عُذِّب وسُجِن 27 سنة، قال بعد تحريره: “إن كنتَ تريد أن تصنع سلاماً مع عدوِّك، عليك أن تعمل مع عدوّك الذي سيصبح عندها شريكا لك”.
نحن لا نطلب الكثير. نطلب القليل ممّا عند غيرنا وممّا هو حقّنا. قد تسأل وأنتَ محبط: “من أين نأتي بهكذا قادة نوعيّين لبلادنا في زمنٍ رديء”؟ الانتخابات أعطت بصيص أمل وأكثر. وأعتقد أنّ كثيرين سينتبهون إلى الإتّجاه الجديد لبوصلة الزمن، وسيغارون ويحاولون اللحاق. يستحقُّ لبنان، بلدُ جيشِ المتعلّمين، أن يكون نصيبُه قادةً من هذا الـ Caliber.
سمير قسطنطين
الصورة لنبيل اسماعيل من أسرة النهار
أحدث التعليقات