الأزمة غير مفاجئة. المفاجئ كان تحريكُها الآن. كان من المفروض أن تصل الباخرة في آذار. تأخّرَت. وصلَـت الآن. هي ليست باخرة للتنقيب، بل للإستخراج. وصولُها سبق وصول هوكشتاين الذي أتى على عجل. عندما استدعاه لبنان، ظنّ كثيرون أنّ إعلانَ حربٍ بين لبنان وإسرائيل هو على مسافةٍ قصيرة. لكن الكلامَ عن الخطّ 29 كلامٌ شعبوي.
الدولة اللبنانيّة، ومنذ البداية تحدّثت فقط عن الخطّ 23. لم تطالب يوماً بالخطّ 29، ولا أَرسَلَت إلى الأمم المتّحدة تعديلاً للخرائط. فكيف يطالب البعض بالتفاوض حول ما وراء الحدود التي رسمها لبنان لنفسه؟ لا يحقُّ لنا المطالبة بالتفاوض حول المساحات التي تحيط بالخطّ 29، ولا يحقُّ لنا بالتالي اعتبار حركة إسرائيل المائيّة باتّجاه الخط 29 إعتداءً. جاء اللوم على رئيس الجمهوريّة ظالماً إذْ أنّ لبنان لم يتمسّك يوماً بالخطّ 29.
لنستعرض. موقف حزب الله واضحٌ. لم أسمع كلاماً رسميّاً من الحزب يعتبر فيه تخطّي إسرائيل للخطّ 29 باتّجاه الشمال اعتداءً. دلّوني على تصريحٍ واحد للحزب في هذا المجال. الشيخ نعيم قاسم عبّر عن جهوزيّة الحزب عندما تُعلن الدولة اللبنانيّة عن اعتداءٍ ما على حقوق لبنان. لكنّ الحكومة اللبنانيّة لم تُعلن يوماً ذلك. أمين عام الحزب السيّد حسن نصرالله ذهب أبعد من قاسم في النبرة، وتحدّث عن قدرة الحزب على إيقاف الإسرائيليّين في كاريش. لكنّه لم يقُل لمرّةٍ واحدةٍ إنّ الخط 29 هو لنا. لم يُشِرْ حتّى إلى هذا الأمر. إكتفى السيّد بوضع قدرات الحزب خلف الدولة لكنّه لم يُحدّد للدولة رأيه بالخطوط. رئيس الوفد التقني العسكري المفاوض حول الحدود البحرية العميد الركن بسام ياسين الذي أثار موضوع حقّ لبنان في الخطّ 29 والمساحة الجنوبيّة له، يُدرك تماماً أنّه في جلسات التفاوض في الناقورة لم يُثِرْ الوفد اللبناني مسألة الخطّ 29 إطلاقاً. كلامُه عن تنازل لبنان الآن عن حقّه لم يكن هو نفسه في المفاوضات. هو الآن يمثّل رأيه الشخصي. مستشار الرئيس نبيه برّي الدكتور علي حمدان قال في برنامج الإعلامي مرسيل غانم “صار الوقت” إنّ الخط الرسمي الذي يطالب فيه لبنان هو الخط 23، وأضاف يومها قائلاً “إنّ الخط 29 هو خطٌّ إفتراضيٌّ، وإذا وجدنا في يومٍ من الأيّام أنّ لنا حقّاً في المطالبة به، سنفعل ذلك”. الرئيس نجيب ميقاتي قال أيضاً كلاماً مشابهاً عندما اعتبر أنّ الخط 23 هو ما يتمسّك به لبنان واعتبر أنّ الخط 29 هو خطٌّ تفاوضي. لكن ليس الوضع كذلك عمليّاً. الخطُّ يكون تفاوضيّاً إذا أنتَ طرحتَه على الطاولة وأرسلتَ ذلك موثَّقاً إلى الأمم المتّحدة. لبنان لم يفعل ذلك. ومَنْ ذاكرتُه جيّدة يُدرك أنّ الخطّ 23 لم يرسمْه الرئيس عون بل رسمه الرئيس برّي عندما كان هذا الملفُّ في عهدة رئيس مجلس النوّاب.
الدولة غير قادرةٍ على تحديد وجهة مواجهةٍ ما، والحزب لا يريد أن يربح ولا يريد أن يخسر ولا يريد المنازلة الآن. أصحاب القرارات أكثر عقلانيّةً من ذلك وإن كان الخطاب يستلذُّ الشعبويّة في بعض المرّات. آخر الحروب المحليّة هي حرب الـ 2006. الحروب الحاليّة في أوكرانيا وتلك الآتية أكبر بكثير من الـ 2006.
سمير قسطنطين