عندما ينفعلُ الناس، تسمع عبارات مثل: “شو بِكُنْ يا عمّي مِش عم تفهموني”، أو “دِقْ المَيْ مَيْ”. يُقال ذلك في إشارة إلى أنّ الآخر لم يقتنع بسبب عناده. لكن هل يتعلّق الأمر بالآخر أو بنا نحن؟ وبالتالي: “هل أنا مؤثِّر ومُقنِع؟ وهل يكفي لإقناع الآخرين أن أكون على حقٍّ في فكرتي التي أُسوّقها”؟ طبعاً لا. الأمر ليس بسيطاً. لذا نخسر مرّات في حواراتنا مع أولادنا وشركائنا وزملائنا، وفي تعاطينا الشأن العام، فرصاً ثمينة لننقلَ إليهم أفكارَنا التي نعتقد أنّها صحيحة.
الإقناع هو مهارة متقدّمة و”متحوّرة” إذا جاز التعبير من مهارات التواصل. ما هي أسرارُها؟ ولماذا يكون أشخاصٌ مقنِعين وفكرتُهُم غريبة؟ ولماذا يكون آخرون غير مُقنِعين حتّى عندما تكون فكرتهم جيّدة؟
مهارات التأثير والإقناع مطلوبةٌ عندما تحاولين إقناع زوجكِ بقيامكما بزيارة أو بإلغائها، أو تحاول إقناع مديركَ في العمل بأخذ إجازةٍ في فصل الذّروة، أو التأثير في رأي شخصٍ قُبيل الانتخابات ليقترع لمرشّحكَ المُفضّل، أو تحاولين إقناع أهلكِ بالسفر مع صديقاتكِ إلى شرم الشيخ وَهُمْ معارضون للفكرة. ليس الأفراد وحدَهم من يحتاجون هذه المهارة. الشركات تفعل ذلك أيضاً عبر حملاتها الترويجيّة الذكيّة والمتطوّرة. وما هو الإعلان سوى محاولة لإقناع الآخرين بشراء مُنتجٍ ما؟
من هو الشخص المُقنِع؟ ما هي مواصفاته؟ وما هي العوامل المساعِدة على إقناع الآخرين بفكرةٍ ما، بمنتجٍ، بحزبٍ؟
أوّل عدوٍّ للإقناع هو تحويل الحوار إلى حلبة ملاكمةٍ مع الآخر، يكون فيها كلُّ همّكَ انتصار فكرتِكَ. في هذا النِزالِ الحواريّ تلجأ إلى عنفٍ كلاميّ كالتهديد والتحقير. قد يحصلُ هذا في برامج التوك شو السياسيّة. لكنّ محاولات الإقناع تأخذ منحىً آخر إيجابيّاً. ففي نقاشٍ بين مسؤول البيع في شركةٍ لبيع السيّارات وإدارةِ مدرسةٍ تسعى إلى شراء عشرة باصاتٍ لنقل التلاميذ، تكون مهارات الاقناع مطلوبة للوصول إلى صفقة رابح – رابح بين الطرفين.
في مهارات التأثير، من الضروري أن تبدأ حديثاً مع الآخر يتعلّق باهتماماته هو وليس باهتماماتك أنتَ. فمثلاً، إذا كُنتَ مديراً للمبيعات في شركة مفروشات وتدير حديثاً مع شارٍ مُحتمل جاء مع عائلتِه، من المفيد أن تبدأ حديثكَ معه عن أولاده فتُبدي اهتماماً وسروراً صادقَيْن بأحوال أولادِه ودراستهم وإنجازاتهم. قال بنجامين فرانكلين: “إذا أردتَ الاقناع، فيجب عليك أن تنشد الاهتمام وليس الفكر”.
عندما يخطبُ سياسيٌّ في الناس ويركّز في حديثه على أسباب فشل خطّته في تطوير مِرفقٍ ما، أو يُمَحوِر مداخلتِه حول تعرّضه لظلمٍ حسب رأيِه، فالمستمع لا يعنيه الأمر. هو يفضّل أن يسمع كلاماً فيه فائدة لمستقبله.
الثقة بالنفس مسألةٌ ضروريّةٌ في مجال مهارات التأثير في الناس. في عمليّات البيع قاعدةٌ أساسيّة هي أنّ الشاري لن يشتري المُنتج قبل أن تشتريه أنتَ، بمعنى أنّ الشاري سيتشجّع على إتمام عمليّة الشراء إنْ هو رآكَ جِدّياً وواثقاً بمنتجِكَ ومالكاً أجوبةً عن كلِّ سؤالٍ يدور في ذهنه. إذا رآك ضعيفاً، فقد خسرتَ الصفقة.
في عمليّة التأثير في الآخرين لا بُدّ من شيءٍ من خفّة الروح. ليس مُتوَقّعاً أن تُخبر في خطابٍ لكَ في حفلٍ جماهيري نكاتَ “أبو العبد”، لكنّ الفُكاهة يجب أن تحضر. من المهم أن تلمس القلبَ فتضع بسمةً على الوجه. ومن المفيد أيضاً في الخطاب، أن تجعل دمعةً صغيرة تقف على عتبةِ جفن المستمع. ولعلَّ الخطاب الأكثر تأثيراً هو ذاك الذي يضحكُكَ ويُبكيكَ قليلاً، ويتحدّث إلى عقلكَ في آن.
كذلك فإنّ المرونةَ بمعنى الـ Flexibility تساعد في عمليّة التأثير. من الطبيعي أن تكون مقتنِعاً برأيكَ عندما تتحدّث إلى آخرين، لكن من المهمّ أن تكون مرِناً ومنفتِحاً على فكرةٍ مختلفة عن فكرتك تأتيكَ من آخرٍ. ستكون أكثر تأثيراً فيه إنْ أنتَ أشعرتَه بأنّك مهتمٌّ بتمايز فكرته، أكثر ممّا أنتَ مهتمٌ بإقناعه برأيكَ.
الصدقية هي بُعدٌ آخر في عالم التأثير والإقناع. في عالم المال، قولٌ مأثور: An Honest Business is a Smart Business، أي أنّ التجارة الصادقة هي تجارةٌ ذكيّة. الصدقية تدعمُكَ حين تُريد أن تؤثّر إيجاباً، وإلّا فإنّك ستكون من جماعة الـ Manipulators الذين يتلاعبون بالعواطف وسريعاً ما تنكشف خزعبلاتهم. فلا تحاول مثلاً إقناع زبونٍ بمُنتج معيّن سبق وأن سبّب أضراراً لآخرين. وهذا يطرح سؤالاً على من يُريد التأثير والإقناع: هل أنا مؤثِّر Influencer أو متلاعب بالمشاعر Manipulator؟
من تقنيّات الإقناع أيضاً ألا تحاول نسف كلّ قناعات الآخر. فإذا كُنتَ تتحدّثُ مثلاً إلى حزبيٍّ ما وقُلتَ له إنّ حزبَه مجرمٌ وإنّ رئيس حزبه متورّطٌ في الفساد، فأنتَ تُلغي كلَّ ما لهذا الحزبيّ من فخر بانتمائه، وأنتَ تنسف كلّ إمكان لإيصال فكرتك، وبالتالي التأثير فيه. هل هذا يعني أن تداهنَه؟ طبعاً لا. لكن من المُفضّل أن تتحدّث إليه مثلاً عن قناعاتٍ جيّدة للحزب، أو عن مرحلة البدايات التي كانت متميّزة، قبل أن تبدأ بالنقد لا الانتقاد، مضيئاً على السلوكيّات لا مُحقّراً للأشخاص.
المبالغة نقيضٌ للصدقيّة، واستغلال موقعك في مؤسّسة ما للضغط على الزميلات والزملاء بهدف التأثير فيهم وإقناعهم بوجهةِ نظركَ هو أيضاً نقيضٌ للصدقيّة حتّى وإن اقتنعوا ظاهريًاً بفكرتك.
في التأثير بالآخرين ومهارات الإقناع شيءٌ من المنطق، لكن ولأنّ المنطقَ جافٌ، فأنتَ “تُكحِّل” هذا المنطق بشيءٍ من العاطفة الذكيّة وبتقنيّات، تعمل مجتمعةً لزيادة تأثيرك في الآخرين وإمكان إقناعهم.
سمير قسطنطين