أينما جلسْتَ تسمعُ أُناساً يهاجمون الفاسدين، ويعبّرون عن خيبتِهم ممّن في السلطة. في بلدٍ طائفيٍّ مثل لبنان لا يُمكنكَ أن تغيّر شيئاً إلّا عبر الانتخابات، فالانقلابات ممنوعة، والثورات سريعاً ما يشتعل فيها فتيل الطائفيّة. لكنّ الانتخابات النيابيّة جلَبَتْ معها تغييراً لم يكُن بحجم النقمة. من عايشَ في المرفأ أكبر إنفجار غير نووي، ظنَّ أنّ الإقبال على الانتخابات النيابيّة سيكون مُدوّياً. لكن معظم مقترعي الدائرة الأولى لم يذهبوا إلى الصناديق. ظاهرةٌ غريبة. بهذا يُشبهُ اللبنانيّون شخصاً يشكو للناس من أوجاعٍ، لكنّه لا يذهب إلى الطبيب، وإذا ذهبَ فلا يشتري الدواء، وإذا اشتراه فلا يتناوله.
أَلَسنا ننتقد كيف يُخالف سائقون قانون السير، لكنّنا في زمن تطبيق قانون “حزام الأمان” كُنّا نُسرع إلى ربطِ الحزام عندما كان حاجزُ الشرطةِ يفاجئنا؟ وهل نذكر كيف كُنّا نترجّى الشرطي ألّا يُصدر محضراً بحقّنا؟ أَوَلَم نتّهم كثيرين بسرقة المال العام لكنّنا عندما سجّلنا شقةً أو قطعة أرض بإسمنا، حاولنا المستحيل لكي تأتي “القيمة التأجيريّة” أقل من القيمة الحقيقيّة؟ أَلَم نكن في ذلك نرشي ونرتشي نحن الذين ندّعي محاربة الفساد؟ أَلَمْ نُقرّ في أحاديثنا الكثيرة بحتميّة التغيير، لكنّنا لم نسعَ إليه يوماً بشكلٍ جِدّيٍّ؟ وعندما حاول غيرُنا إنزعجنا منه وخوّنّاه؟ أَلَم نُطالب بالتغيير، وعندما أتى إلى المجلس تغييريّون كُنّا قساةً جدّاً بحقّهم؟ ألا يعتقد معظمُنا أنّ التغيير يجب أن يشمل كثيرين إلّا أنا ومن يشبهُني؟ ألا نُزايد على بعضنا في حبِّ الوطن، وفي أوّل امتحان لنا نكتشف أنّ حبَّنا لطائفتنا يفوق حبّنا للبنان؟ ألا يذهبُ نصف الناس في لبنان إلى المعابد ويصومون في شهور الصيام المتنوّعة، لكنّنا نادراً ما نلمس محبّة ورحمةً وتواضعاً في السلوك؟ بلدُ المتناقضات والانفصامات. يتقاتل الحزبيّون ويتشاتمون، وفي الانتخابات النيابيّة يتحالفون على اللوائح نفسها، ويبرّرون ذلك ببراغماتيّة معتوهة. هذا بلدٌ تعتقل فيه الأجهزة الأمنيّة رجلاً أراد الحصول على أموالِه بالقوّة، وأنا أفهم ذلك لأنّه عرّض حياة أبرياءَ للخطر. لكنّ الدولة تحمي في مواكب سيّارة وحواجز قرب بيوتهم زعماء فاسدين سرقوا أموال هذا الساخط. ألَيسَ غريباً أن يُقاضي مُتَّهمٌ بالضلوع بتفجير المرفأ قاضياً عدليّاً عيّنته الدولة للتحقيق في الإنفجار؟ أَوَليس غريباً سكوتنا عن طرقات تعوم بالمياه مع أوّل شتوةٍ، وقد اقتربت، فيما سدودنا فارغة من المياه؟ هل نحنُ منفصمون من دون أن ندري؟ أم نحنُ تافهون نحبّ الكلامَ الفارغ؟ أم نحنُ ضعفاء لا نقوى على الثورة؟
هل المشكلة الحقيقيّة هي في اللبنانيّين أنفسِهم؟ هل يستطيبُ الشعبُ الشكوى، ثمّ يقترع لصالح من يشكو منه؟ هل نستلذُّ سرقة الدولة عبر التهرّب من دفع الضرائب والرسوم، ومن ثمّ ندينُ السارقين في السلطة لكنّنا نعود وننتخبهم كممثّلين عنّا؟ هل ننتقدُ التوريث السياسيَّ، وندينُ الإقطاعيّين لكنّنا في يوم الانتخاب، نوصل إقطاعيّين قدماء وجُدُد إلى البرلمان؟ وهل نهاجم كلّ السياسيّين على قاعدة “كِلُّنْ يعني كِلُّن”، ومن ثمّ نستثني زعيم طائفتنا من الشعار؟ هل نحن نعاني متلازمة استوكهولم من دون أن ندري، فنتعاطف مع من أساء إلينا، ونُظهر شكلاً من أشكال التعاون مع من خَطَفَ شبابنا ومدخّراتنا يصل إلى حدود الدفاع عنهم؟
هل نحن بحاجةٍ إلى فحصِ كلّ ذلك في جيناتنا؟ هل نحن بحاجةٍ إلى علاجٍ لكلّنا؟
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات