في زمنٍ كان لبنانُ مدرسةَ الشّرق؛ كان يكفي لمديرِ مدرسةٍ أن يكونَ خرّيجَ جامعةٍ ذا سنواتٍ من الخبرةِ التربويّةِ والإداريّة. يومَها كان المديرُ مديراً، يهتمُّ بشؤونِ التّربية في مدرستِهِ وإدارة المؤسسة بشكلٍ عام. وكان لهُ معاونون، مديرُ قسمٍ من هنا، ومنسِّقٌ من هناك، ومن يهتمُّ بأمورِ المالِ والصّيانةِ وما إليهما. عَصَفَتِ الأزمةُ في المدارس قبل الـ2019. في حينِهِ كان المعلّمون في حالاتِ إضرابٍ مُتَكرِّرة، وكانت العلاقات بين إدارات المدارس والمعلّمين على تماسٍ متوتّرٍ.
الزّمن الذّهبيُّ للبنان كان زمن التّلميذ محورِ العمليّة التّعلُّمية. كلُّ أهل المدرسةِ مُجنَّدونَ من أجلِ هذا التّلميذ. منذُ خمس سنواتٍ تقريباً بات الزّمنُ زَمَنَ المعلّمين. لم يكُنْ تقديرُ المعلّم هو السبب. كان الهَمُّ كيفيّة تخفيف العبءِ المعيشيِّ عن المعلِّمين، هذا الظّلم الّذي لحق بهم جرّاء انهيارِ اللّيرة اللّبنانيّة.
السّنةُ الماضية كانت السنة التي خسرت المدارس فيها معلّمين كُثُراً. انتقلت أعدادٌ كبيرةٌ منهم من مدارسَ لبنان إلى مدارِسَ الخارِج، وتوقَّفَت أمّهاتٌ منهنَّ عن التّعليم إذْ شَعَرنَ أنَّ بقاءَهنّ في بيوتهنَّ قربَ أولادِهنَّ هو استثمارٌ أوفر مردوداً لهنَّ من التّعليم. وانتقلَ قسمٌ ثالثٌ إلى مدرسةٍ تُوفِّرُ جزءاً من المعاش بالدّولار “الفريش”.
لكنّي الآن قلقٌ على مدير المدرسة. وأعتقد أنَّنا إذا أردنا أن نكتُبَ التّوصيفَ الوظيفي لمديرِ مدرسةٍ الآن، علينا أن نُعيدَ صياغته “من أوّل وجديد.” فعلى المديرِ الآن أن يكونَ مُرشِداً counselor فيُصغي إلى أهل التّلميذ والمعلّم والإداري في المدرسة. وإذا كانَ للمدرسةِ مجلسُ أمناء، أو جهةٌ مالكةٌ، فيتوجَّبُ عليه أن يمتلكَ مهارات التّواصُل مع هذه الجهات. هو في الوقتِ الحاضِر مديرُ صيانةٍ يبحثُ ويُقرِّرُ فيما إذا كان تغييرُ برغيٍّ ضروريّاً أم لا. هوَ مهندسُ طاقة، عليه أن يستنبطَ حلولاً لانقطاع كهرباء الدّولة بشكلٍ كامل، وغلاءِ طاقة المولِّدات الكهربائيّة. وعليه أن يكونَ خبيراً ماليّاً فيُقرِّرَ الجُزءَ الّذي سيُستوفى بالدّولار الأميركي والجزء الّذي سيُستوفى باللّيرة اللّبنانيّة، ويقرِّرَ أيضاً حجمِ عطاءاتِ المدرسة بدولار “الفريش” للمعلِّمينَ. وعلى هذا المدير أيضاً أن يكونَ مُحامياً فَيَترافَعَ عن نفسه أمام اتّهامات لجانِ الأهل الّتي تظلمُهُ في كثيرٍ من الأحيان وتُحمِّله مسؤوليّة عجزها عن تسديد القسطِ وكأنَّهُ غيرُ مسؤولٍ هو عن إرضاءِ المعلّمين الّذي انخفضَت مداخيلهم بشكلٍ موجع. ولن أنسى دوره بأن يكون جامعاً للتبرّعات الأمر الذي لم يفعله طوال حياته. أعتقد أن خسارة معلّمين جيّدين في المدارس وصلتْ إلى الـ peak هذه السّنة الدراسية. وأعتقدُ آسِفاً أن السّنة الدّراسية 2023-2024 ستكون سنة خسارةِ مديري ومديرات مدارسَ خاصّة وبشكلٍ كبير. لماذا؟ لأنَّ الجّهات المالكة للمدارس ومجالسَ الأُمناء الّتي تشرفُ عليها، إذا لم تُدرك حجمَ الحاجةِ إلى هؤلاء، وحجمَ حاجةِ هؤلاء إلى المال، فإنَّهم سيجدون أنفسَهم على طائراتٍ تقلُّهم إلى بلد عربيٍّ أو إفريقي، أو راحلينَ إلى مدارسَ خاصّة قادرةٍ على جعلهم يعيشون بالحدِّ الأدنى من كراماتهم.
في صِغَرِنا قرأنا كتاب “أقزامٍ جبابرة” لمارون عبّود. هؤلاء المدراء الأقزام الّذين لم يسأل أحدٌ رأيهم في الوضعِ السّياسي والاقتصادي على طِوال عقودٍ من الزّمن، فجأةً تحوّلوا بنظرِ النّاس إلى “حلّالين المشاكل”. هُم حقّاً جبابرة، ليس في القِصص فقط، يتحمّلون ما لا يُحمَل من قلق الناس وغضبهم أحياناً وظُلمهم، ومن تقصير الدولة التي بات واجباً علينا أن نجد توصيفاً لدورها يتخطّى بكثير عبارة “التقصير”. عسانا نُقدّرهم قبل أن ينقرضوا.
سمير قسطنطين