الأوضاع في لبنان تجعل العلاجَ التقليديّ للوضع يولد ميّتاً. الظَّرفُ استثنائي، والمُعطيات غامضةٌ، ووقعُ الأزمةِ على المؤسّسات مزلزِلٌ. وعلى رُغمِ اقتناعي بفصل الدّين عن الدّولة، فإنّي أعتقد أنَّ للكنيسة كمؤسَّسة دوراً على مستوى الرّؤيا واستشراف المستقبل، الأمر الذي لا يتناقض وفصل الدّين عن الدّولة.
الرّؤيا المطلوبة في شِقِّها الأوّل تتعلَّقُ بأيِّ لبنانٍ هو الأفضل لأبنائه جميعاً، والقابل للحياة في الخمسين سنة المُقبِلة. الكنيسة، في شقِّها الماروني، اخترعت “لبنان الكبير”. بغضِّ النَّظر عن رأينا بصوابيّته، فإنَّنا لا نستطيع إلّا أن نحترم فكرة أنَّه كان للكنيسة رؤيا في ذلك الزَّمن. مطلوبٌ من الكنيسة أن تقولَ شيئاً، بغضِّ النَّظَر عمّا يقوله المسيحيّون وما يريده المسلمون، وذلك حول لبنان ودوره ورسالته وهويّته وحدوده ونِظامه وأن توثّقها، وأن تقودَ حواراً معمَّقاً بين المسيحيّين في مراحِلِهِ الأولى، ومن ثَمَّ تتشكَّلُ ورقةُ عَمَل تُناقَش على مستوى الوطن. من الضّروري أن تقول الكنيسة، إذا ما زالت فكرة لبنان الكبير صالحة، وما إذا كانت هناك ضرورةٌ لشكلٍ آخر لهذا اللّبنان.
الرّؤيا الثّانية المطلوبة من الكنيسة هي الرّؤيا حول الوضع الاجتماعي للنّاس. لنتَّفق في البداية على أنَّ الكنيسة لا يُمكن أن تكون بديلاً من الدّولة. لكن للكنيسة ذراعاً أو أكثر اجتماعيةً. والكنيسةُ تُتَمِّم رسالتَها الاجتماعيّة من خلال المآوي والمستوصفات والمستشفيات ودور العجزة والمنظَّمات غير الحكوميّة. ما هي رؤيةُ الكنيسة الاستراتيجيّة لجعلِ مآسي النّاس أقلَّ وطأة؟ قد تقولُ لي إنَّ الكنيسة بأبرشيّاتها ومؤسّساتها تتحرَّك، وأنا أشهدُ إيجاباً على هذا الموضوع. لكنّني أسألُ هنا عن استراتيجيّة الكنيسة تحديداً، والّتي يُفتَرَض أن تحدِّد أين نقف نحنُ الآن، وإلى أين نريد أن نذهب، وأيَّ أهدافٍ نُريدُ أن نحقِّق، وكيف نصل إلى هناك. يحتاج ذلك إلى عصفٍ ذهنيٍّ واسع، وقد يأخذُ الأمر لوضع استراتيجيَّةٍ متوسّطة المدى وقتاً. ولكن، وبعد ثلاث سنوات من معاناةٍ كبيرة، لا نستطيع أن نتصرَّفَ اجتماعيّاً ومع النّاس بطريقةٍ تقلُّ ولو أنملةً واحدةً عمّا نسمّيه خطَّة استراتيجيّة متكاملة.
الرّؤيا الثّالثة المطلوبة من الكنيسة هي رؤيا لمصيرِ مؤسّساتها. حتّى اللّحظةِ، لا تزالُ الكنيسة أكبرَ “هولدينغ” في لبنان، إذ تملكُ ما يفوق الـ 450 مؤسّسة عامِلة منها مدارِس وجامعات ومستشفيات ومنظّمات غير حكوميّة وأديار مُنتِجة ومآوي عَجَزة وغيرها. للكنيسة موارِدُ بشريّة تتخطّى الخمسين ألفاً. رقمٌ عالٍ. يحقُّ لنا جميعاً أن نتوقّع رؤيا استراتيجيّة للتنمية المستدامة لهذه المؤسّسات، خصوصاً أنَّ خَطَرَ الإقفال يتهدَّدُ قسماً منها، وخصوصاً تلك التي تخصُّ الفقراء والتي في الأرياف. خُذ مثلاً المدارس. ارتباط النّاسِ بالأرض في القرى يتوقَّفُ في مرّاتٍ كثيرة عليها، وإلا هجَرَت الناس قراها أو هاجرت منها إلى الغربة.
عندما أتحدّثُ عن رؤى للكنيسة تجاه هذه المواضيع، لا أعني أنَّ الكنيسة لا تفكِّرُ فيها، أو أنَّها غافلةٌ عن ظروفها شبه المستحيلة. لكن لعلّي أحببتُ أن أُشيرَ إلى أمرَين إثنين. الأوّل أن الأزمات الثّلاث هذه، أزمات الوطن والمؤسّسات والوضع الاجتماعي أزماتٌ مترابطة، وفي كثيرٍ من الأحيان تكونُ الهجرةُ القصريّةُ نتيجة محتومة لها. والأمرُ الثّاني هو أنَّ المطلوبَ كثيرٌ وكبيرٌ وصعب، ويتطلَّبُ رؤيا وجُهداً وموارِدَ بشريّة وكثيراً من الهدوء والتّفكير والتّأمُّلِ خَلفَ جُدرانٍ أربعة وفي قاعاتٍ لا يدخلها إلا المفكّرون. ولعلّها تَتَطَلَّبُ أيضاً القليل من حُبِّ الظّهور عند المفكِّرين والمعنيّين، والكثير من الحُبِّ والتّجرُّد والتواضع.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات