23 كانون الأول 2022
في مثل هذا اليوم قبل ثمانٍ وثلاثين سنة بالتمام والكمال، 23 كانون الأول 1984، عُدتُ من الولايات المتّحدة بعد أن درستُ هناك سنتَين. كان الزمنُ زمنَ حربٍ وخطوطِ تماسٍ وقصفٍ مُتبادلٍ. وأذكرُ أنّي أحببتُ في أوّل يوم للعودة أن أتمشّى في الدكوانة، البلدة التي كُنّا نقطنُها. كُنتُ مشتاقاً إلى أحيائِها وإلى تحيّة الأحبّة. مشَيْتُ والمرحوم والدي في تلك الشوارع الضيّقة ونحن نتساير ونتحاور، وإذْ بقذيفتَين تسقطان في البلدة في مكانٍ ليس ببعيدٍ منّا. في هكذا لحظة، من الطبيعي أن تسأل نفسَك “إلى أين رجعْتَ”؟ قبل العودة إلى لبنان، لم يبقَ قريبٌ لي أو صديق، في الولايات المتّحدة وفي لبنان، لم يطلب منّي البقاء في أميركا، وكان طلبُهم منطقيّاً آنذاك، ولعلّه ما زال منطقيّاً الآن أيضاً بعد مرور ثمانٍ وثلاثين سنة كاملة.
اليوم أنظرُ إلى الوراء، أقيِّم قراري بالرجوع إلى الوطن. هل كان القرار صائباً؟ هل كان أفضلَ قرارٍ تمكّن شابٌ في الرابعة والعشرين من عمره من أن يتّخذه؟
صدِّقوني أنّه لم يمرّ يومٌ منذ ذلك النهار شعرتُ فيه بالندم لأنّي عُدتُ، ولا مرّت لحظةٌ واحدة لُمتُ فيها نفسي على القرار. أنا لستُ ساذَجاً ولا أعيش في مرّيخٍ ما. أنا أعيش هنا في بلدٍ فيه حروبٌ صغيرة متنقّلة. وفي بعض المرّات حروبُه كبيرة. فقد عِشْتُ الحرب الأهليّة كُلّها وحرب تموز وما إليهِما. لكنّي أيضاً أعيش بين أُناسٍ طيّبين، أحتضنُ وإياهُم ذكرياتي الجميلة، وأحلمُ وإيّاهم بوطنٍ يكون فيه القانون سيّد الكلّ، وأُناضل معهم كلّ يوم من أجل “لبنانٍ” تكون فيه المواطَنة مشروعَ شراكةٍ حقيقيّة يوميّة.
ما زلتُ مؤمناً حتى اليوم بأنَّ لبنان هو أجمل الأوطان، وإنّي أتمنّى لولديَّ إيمانويل وجيمي أن يعيشا فيه ولو عملا في بلدٍ قريب منّا. أتمنّى لهما ألا يهجراه، وأن يؤمِنا أنّ لكلّ بلدٍ تحديّاته وأوجاعه وكوارثه.
لا أُريد أن أُقارنَ نفسي وبلدي بأيِّ مواطنٍ آخر في أي بلدٍ آخر لأنّ لبنان سيسقطُ في امتحان الفساد واللاقانون والتوتّرات وهدرِ حقوق الإنسان وتحديداً حقوق المواطن. لكن هذا الوطن وطنُنا جميعاً، مسلمين ومسيحيّين، وليس كثيراً عليه أن نحملَه بحدقاتِ العيون، وأن نذودَ عنه إذا ما دعا الواجب، وأن نعملَ من أجل بقائِه ومِنعتِه ووحدتِه.
لبنان بحاجةٍ إلى الكثير من العمل من الجميع، ليكونَ كلُّ واحدٍ منّا زميلاً أفضل في العمل، وجاراً أفضل في البناية، ومعلّما أفضل في المدرسة، ومواطناً أفضل أمام الشارات الكهربائيّة وفي الحفاظ على الممتلكات العامة.
قد لا أكون مُقنِعاً بالنسبة لكَ ربّما. هذا حقُّكَ. لكنَّ أحداً في الدنيا لن يغيِّر قناعتي بعد أربعة عقودٍ تقريباً من العودة بأنَّ لبنان هو وطني وبأنّي لن أترُكَه لا لمحتلّين ولا لنازِحين ولا للاجئين، أشقّاء كانوا أم أعداء، واعذروني. إذا رأيتَ في حُبّي للبنان عنصريّةً، فهذه مشكلتُكَ وليست مشكلتي. لن أتخلّى عنه لا لزعرانٍ موجودين، ولا لسياسيّين فاسدين. “مَرَقْ علينا كتير غيرُنْ”، الله يُعين. هذا بلدُنا، بلد الأوادم، وسيبقى كذلك ما دامت فينا روحٌ تنبض. قوَّ الله عزيمتَنا لكي نبقى مؤمنين أنّ لنا رسالةً ودوراً في هذه العاصفة. عسى قوسَ القُزح لا يمتحنُ صبرَنا أكثر. ثمانيةٌ وثلاثون عاماً ولم أندمْ.
سمير قسطنطين
23 كانون الأول 2022، النهار
في مثل هذا اليوم قبل ثمانٍ وثلاثين سنة بالتمام والكمال، 23 كانون الأول 1984، عُدتُ من الولايات المتّحدة بعد أن درستُ هناك سنتَين. كان الزمنُ زمنَ حربٍ وخطوطِ تماسٍ وقصفٍ مُتبادلٍ. وأذكرُ أنّي أحببتُ في أوّل يوم للعودة أن أتمشّى في الدكوانة، البلدة التي كُنّا نقطنُها. كُنتُ مشتاقاً إلى أحيائِها وإلى تحيّة الأحبّة. مشَيْتُ والمرحوم والدي في تلك الشوارع الضيّقة ونحن نتساير ونتحاور، وإذْ بقذيفتَين تسقطان في البلدة في مكانٍ ليس ببعيدٍ منّا. في هكذا لحظة، من الطبيعي أن تسأل نفسَك “إلى أين رجعْتَ”؟ قبل العودة إلى لبنان، لم يبقَ قريبٌ لي أو صديق، في الولايات المتّحدة وفي لبنان، لم يطلب منّي البقاء في أميركا، وكان طلبُهم منطقيّاً آنذاك، ولعلّه ما زال منطقيّاً الآن أيضاً بعد مرور ثمانٍ وثلاثين سنة كاملة.
اليوم أنظرُ إلى الوراء، أقيِّم قراري بالرجوع إلى الوطن. هل كان القرار صائباً؟ هل كان أفضلَ قرارٍ تمكّن شابٌ في الرابعة والعشرين من عمره من أن يتّخذه؟
صدِّقوني أنّه لم يمرّ يومٌ منذ ذلك النهار شعرتُ فيه بالندم لأنّي عُدتُ، ولا مرّت لحظةٌ واحدة لُمتُ فيها نفسي على القرار. أنا لستُ ساذَجاً ولا أعيش في مرّيخٍ ما. أنا أعيش هنا في بلدٍ فيه حروبٌ صغيرة متنقّلة. وفي بعض المرّات حروبُه كبيرة. فقد عِشْتُ الحرب الأهليّة كُلّها وحرب تموز وما إليهِما. لكنّي أيضاً أعيش بين أُناسٍ طيّبين، أحتضنُ وإياهُم ذكرياتي الجميلة، وأحلمُ وإيّاهم بوطنٍ يكون فيه القانون سيّد الكلّ، وأُناضل معهم كلّ يوم من أجل “لبنانٍ” تكون فيه المواطَنة مشروعَ شراكةٍ حقيقيّة يوميّة.
ما زلتُ مؤمناً حتى اليوم بأنَّ لبنان هو أجمل الأوطان، وإنّي أتمنّى لولديَّ إيمانويل وجيمي أن يعيشا فيه ولو عملا في بلدٍ قريب منّا. أتمنّى لهما ألا يهجراه، وأن يؤمِنا أنّ لكلّ بلدٍ تحديّاته وأوجاعه وكوارثه.
لا أُريد أن أُقارنَ نفسي وبلدي بأيِّ مواطنٍ آخر في أي بلدٍ آخر لأنّ لبنان سيسقطُ في امتحان الفساد واللاقانون والتوتّرات وهدرِ حقوق الإنسان وتحديداً حقوق المواطن. لكن هذا الوطن وطنُنا جميعاً، مسلمين ومسيحيّين، وليس كثيراً عليه أن نحملَه بحدقاتِ العيون، وأن نذودَ عنه إذا ما دعا الواجب، وأن نعملَ من أجل بقائِه ومِنعتِه ووحدتِه.
لبنان بحاجةٍ إلى الكثير من العمل من الجميع، ليكونَ كلُّ واحدٍ منّا زميلاً أفضل في العمل، وجاراً أفضل في البناية، ومعلّما أفضل في المدرسة، ومواطناً أفضل أمام الشارات الكهربائيّة وفي الحفاظ على الممتلكات العامة.
قد لا أكون مُقنِعاً بالنسبة لكَ ربّما. هذا حقُّكَ. لكنَّ أحداً في الدنيا لن يغيِّر قناعتي بعد أربعة عقودٍ تقريباً من العودة بأنَّ لبنان هو وطني وبأنّي لن أترُكَه لا لمحتلّين ولا لنازِحين ولا للاجئين، أشقّاء كانوا أم أعداء، واعذروني. إذا رأيتَ في حُبّي للبنان عنصريّةً، فهذه مشكلتُكَ وليست مشكلتي. لن أتخلّى عنه لا لزعرانٍ موجودين، ولا لسياسيّين فاسدين. “مَرَقْ علينا كتير غيرُنْ”، الله يُعين. هذا بلدُنا، بلد الأوادم، وسيبقى كذلك ما دامت فينا روحٌ تنبض. قوَّ الله عزيمتَنا لكي نبقى مؤمنين أنّ لنا رسالةً ودوراً في هذه العاصفة. عسى قوسَ القُزح لا يمتحنُ صبرَنا أكثر. ثمانيةٌ وثلاثون عاماً ولم أندمْ.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات