سُنّة الله للإنسان أن يأكلَ خبزَه بعرق جبينِه، وأن يعمل ليُحصّلَ لقمة عيشه. هذا بشكلٍ عام وينطبق على غالبيّة البشر. لكن السؤال هو: “كيف يعمل هذا الإنسان؟ وبأيّة معنويّات؟ وممَّ ينطلق؟
المؤسّسات تنظر بكثيرٍ من الاهتمام إلى “الأداء” الـ Performance، وقد طوّرت ما تمّت تسميته الـPerformance Appraisal أي تقييم الأداء. هَدَفَت المؤسّسات في ذلك إلى إبداء رأيها في أداء الموظّف، وبناءً عليه تُقرّر ترقية هذا الموظّف أي الـ Promotion، أو تخفيضِ رتبته ما نسمّيه الـ Demotion، وبالتالي تحديد ما إذا كان هذا الموظّف يستحقُّ علاوةً أو Bonus. طبعاً مفهوم تقييم الأداء تطوّر بشكلٍ مضطرد في العقد الماضي، وباتت المؤسّسات الكبيرة تُسمّيه “إدارة الأداء” أو الـPerformance Management.
سؤال آخر: “هل يمكن لشخصٍ ما أن يقوم بعملٍ بشكلٍ مُتقن من دون أن يُحبَّ هذا العمل”؟ بالمبدأ نعم. قد يكون الأداء ممتازاً لكن من دون شغف. قد يكون أداءُ عاملةِ التنظيفات في المكتب عالياً لكن من دون شغف. هي لا تحبّ عملها، لكنّها تريد “السِترة”، إذا جاز التعبير، فتعمل بكدٍّ ونشاط لترضي مدير المؤسّسة. في داخلها شيءٌ من عدم الرغبة في إتمام عملها لكنّها تتمسّك به خصوصاً في هذه الأيّام الصعبة. هؤلاء يُتقنون الشقَّ التقنيّ من عملهم إلّا أنّ ما ينقصهم هو الشغف الـ Passion.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الشغف يُجوِّد الأداء. هو يُضيف جُرعةً من القلب لما تعمله اليدان والرجلان والعينان. الشّغف في العمل هو المحرّك الرئيس لكلّ إنسان يريدُ أن ينجحَ. فالذين يحملون شغفهَم في قلوبهم لا يهتمّون كثيرًا بالنتائج ولا بالمدخول المادّي. يثابرون حتّى تحقيق أحلامهم. هؤلاء يزيد حماسُهم، ويرتفع منسوبُ نشاطِهم، ويتعزّز ثباتُهم إذْ إنّ الشغف يجعلهم يتمسّكون بما يُحبّونه، ويُمضون وقتاً طويلاً في أعمالهم ويطوّرون خبراتهم، فيتحقّق الإنجاز الرائع.
لهؤلاء أداءٌ عالٍ وشغفٌ يعمل كقوّة دفعٍ لصاروخِ تعلُّقِهِم بعملِهم. هذه هي المرحلة الثانية.
لكن هناك مرحلةٌ ثالثةٌ هي مرحلة إعطاء “معنىً” لكلّ ما تقوم به. لكنّ المعنى من دون شغف لا يمكن تحقيقُه، والمعنى من دون أداءٍ عالي المستوى يُشبه أحلام اليقظة. البعضُ يبقى عند حدود الشغف، فينسى الهدف الأعلى أو المعنى، الأمر الموجود في كلّ مهنةٍ، وضيعةً كانَتْ أم معقّدة Sophisticated. المعنى هو أن ترى الصورة الكبيرة لما تقوم به، وهذا ليس سهلاً. عندما يخرجُ رائدُ الفضاء من كبسولتِه يرى الأرض في صورة مختلفة. مرحلةُ الكورونا لم تكن كلّها “عاطلة”. أشخاصٌ كُثُر وجدوا الهدف الأعلى لحياتهم حينها. كان أداؤهم قبل الكورونا عالياً، وكذلك شغفُهم إلى أن أَتَت الجائحة. تراجع الأداء، وخفّ الشغف بسبب “زربة” البيت، لكنّهم لما باتوا لوحدهم فتّشوا عن الهدف الأعلى للحياة .
عندما يحصل ذلك لا يعودُ هدف الطبيب شفاء المريض الذي يزورُه، ولا يهدف العامل في المُنظّمة غيرِ الحكوميّة الـ NGO إلى توزيع حصص غذائيّة على المحتاجين، ولا تُعلّم المعلّمة الأولاد لغات ورياضيّات فقط، ولا يرى رجلُ الدين في خدمتِه فرصةً للوعظ والإرشاد على أهمّيتهما.
عندما تُقيمُ أنت شراكةً مهنيّةً وثيقةً بين أدائكَ وشغفكَ ومعنى عملك وهدفه الأسمى، يصبح الطبيبُ مسؤولاً عن إيجادٍ عالمٍ أوفر صحّة، ويصبح عمل العامل في الـ NGO رسالةً تخفّف بؤس الناس، ويصبح عمل المعلّمة بناء الشخصيّات لا العقول فقط، ويرى رجل الدين في عمله فرصةً لتعزيز المحبّة والتراحم في كلّ العالم لا الوعظ فقط. وهؤلاء جميعاً عندما يضمّون أداءهم إلى شغفهم والهدف الأسمى للحياة، إنّما هُم يساهمون في جعل هذا العالم مكاناً أجمل وأفضل للعيش كما تقول كلمات أغنيةYou Make the world a Better Place.
في العام 1962، وفي خلال زيارةٍ قام بها الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي إلى مركز الفضاء NASA، لاحظ عاملَ تنظيفاتٍ حاملاً مكنسةً. توقّف أمامَه كينيدي للحظات وقال له: “أُحيّيك، أنا جون كينيدي. ماذا تفعل هنا”؟ أجابه عامل التنظيفات: “سيّدي الرئيس، أنا أُساهم في وصولِ الإنسان إلى سطح القمر”.
هل تشكّ للحظةٍ في أنّ هذا الرجل أتقن الأداء، وكان في قلبه الشغف لمهنته، وفي الوقت نفسه رأى الصورة الكبيرة لعلمه أي الهدف الأعلى منه؟ أنا لا أشك في ذلك.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات