تحتارُ في زمنكَ بما تُؤمن وماذا تؤيِّد. منذ صغري أهوى الحريّة أسلوباً للحياة، والديمقراطيّة نموذجاً للحكم. لم أُعجَب لحظةً بالديكتاتوريّات، ولم تأسُر انتباهي يوماً مسألةُ تقييد الحريّات. أراها دائماً خارجَ المنطِق.
لكنّي أنظُرُ الآن إلى الحريّة في العالم الأوسع، وكيف يتوجَّبُ عليكَ أن تقبلَ بوجود قانونٍ في دولةٍ ما يُعطي الحريّة لمرشدٍ(ة) في مدرسةٍ ما بأن يتحدَّثَ إلى ولدِكَ، الذي لم يتجاوز عمره الإحدى عشرة سنة، عن مسألةِ جندَرِه، وأن يُعطيه بالتّالي الخَيار بأن يكونَ ذكراً أو أُنثى، أو شيئاً ثالثاً، وتمنحَه الحريّة بأن يغيِّرَ جندَرَه من دون موافقةِ أهلِه.
الحريّةُ بالنّسبة لي كانت جميلة عندما كان لكَ الحقُّ بأن تختارَ مرشّحك للانتخابات النّيابيّة، وعندما كُنتَ حُرّاً بأن تسافرَ إلى أيِّ بلدٍ لتُمضي عُطلتَك، وأن تختارَ الاختصاص الجامعي الّذي تُريده، وأن تُعبِّرَ علناً عن رأيكَ السّياسي، أكانَ الرَّأي موالياً لأهل الحُكمِ أم مُعارِضاً لهم. هذه هي الحُريّة الّتي أَحَبَّها مليارات النّاس، والّتي كان يشتاقُ إليها أولئكَ الّذين يعيشون في الديكتاتوريّات. كثيرون أرادوا في القرنِ الماضي الهروب من ألمانيا الشّرقيّة إلى ألمانيا الغربيّة. لم نرَ شخصاً واحداً يريدُ الهروبَ من الغربيّة إلى الشّرقيّة. كانت الحريّةُ زهرةً رائعة.
لكن أن تُصبِحَ الحرّيةُ مُقزِّزةً للأبدان، فإننا بحاجةٍ إلى أن نجد في قواميس اللّغة مُرادفاً غير عبارة “الحريّة” لما يحصُل. ولا يقتَصِرُ الأمر في الحريّة المُشوَّهة في العالَم على تطوُّرِ مفهوم الهويّة الجنسيّة، والّذي أخَذَ أشكالاً مُتَطَرِّفَةً في فترةٍ قصيرةٍ. فموضوع الاستنساخ وغيره كانت فيه الحريّةُ المتوحّشة عنواناً كبيراً أيضاً.
في المُقابِل، هناك نماذِجَ مُقزِّزَةً أصلاً عن الديكتاتوريّة. أصحابُ الديكتاتوريّات غالباً ما أقنعوا أنفسَهم وناسهم بأنَّ الدّولة تعرِفُ أكثر منهم، وأنَّ الحزبَ الحاكِمَ يُدرك مصلحتَهم أكثر ممّا هم يُدرِكونها. وهكذا سيطَرَ أُناسٌ قلائل على شعورهم وأذهانِهم وبرامِج تلفزتِهِم، واختصروا النَّقاشات السّياسيّة في العلن، و”أَدْلَجوا” الأذهان، ورفضوا الرَّأي الآخر بالكامل، إمّا عَبرَ الضّغط ليسكُتَ أو عبر ممارسةِ العُنفِ إذا لم يسكُت. كانت هذه الدُّوَل والأحزاب الحاكمة تُصوِّر نفسها على أنّها مُنقِذَةُ الدُّوَلِ ومُحرّرة الشّعوبِ. الدّيكتاتوريات السّياسيّة أنتجَت في مكانٍ ما ديكتاتوريّات دينيّة، وليس “داعِشُ” آخرَها في العالم، فالعالم يتغيَّرُ بسرعةٍ غير مسبوقة، ومن يدري من يأتي بعد القاعدة وطالِبان وداعِش!
أنتَ هنا الآن. في البدايةِ أحببتَ الحريّة وكَرِهتَ الديكتاتوريّة. لكنك الآنَ في مكانٍ ترى أن الحرّية صارت فُرصةً لكلِّ أنواع الجنون وباتَ قبولُك بها إلزاميّاً، وإذا رفضتَ هذا المُستوى من الحُريّة قامت الدنيا عليكَ ولم تقعُد. ماذا إذن هي؟ هي ديكتاتوريّة أُخرى تقمعُك إذا أنتَ رفضتَ هذا المستوى من الحُريّة.
ماذا تختار لكَ ولولدِكَ وحياتِك وعائلتِكَ ووطَنِكَ والعمل السّياسي فيه؟ أنتَ لا تستطيع أن تَتَنَفَّس إلّا الحريّة كما غنّت جوليا بُطرس، لكنّكَ في الوقتِ نفسِه لا تستطيع أن تتآلَف مع هذه الحُريّة الّمتوحّشة. وأنتَ في المقابل، لا تستطيع أن تَقبَل بديكتاتوريّةٍ سياسيّةٍ أو دينيّة، ولا يُمكنكَ أن تعتمدَها أسلوباً لحياتِك، ولا أن تقبلَها واقِعاً في وطنِكَ وفي العالَم. فماذا تختارُ؟
العالم يتَّجِهُ إلى وحشَين كبيرَين وأنتَ عالقٌ بينَهُما، وخيار الـ Happy Medium ليس واضحاً! هل صَدَقَتْ فيروز عندما غنّت “الحرّية كذب وكل حكم بالأرض باطل”؟
سمير قسطنطين