Samir Costantine

…في سطورٍ

Samir Costantine

لم تكن طفولتي طفولةً غير عاديّة في منطقة المصيطبة، ناحيةٍ من نواحي العاصمة بيروت. أذكر منها بنوعٍ خاص أيام الآحاد عند الغروب، كيف كنا نتجمّع صوب البحر نُحمِّلُ أمواجه طموحاً يضجّ فينا يتخطى الآفاق والمنظور. ما زالت في أنفي رائحة كعك الزعتر وأمام عينيَّ قناديل العربات تجرّ للأطفال سعادة ودفئاً.

لكن، وفي منتصف طريق الدراسة نحو التخرّج من المدرسة، اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان، فخرّبَت أحلاماً كثيرةً، وشتَّتت عائلات، وأحزنَت قلوب كثيرين، وكسَرَت ظهور أُناسٍ طيّبين، وطالَت عائلتَنا بحُزنَين كبيرين. هي ضريبة الحرب التي لم ترحم.

بعد تخرّجي من المدرسة الإنجيلية في المصيطبة، كان دخولي إلى الجامعةِ الأميركيّة في بيروت نوعاً من تحقيق حلمٍ كبير لم أكُن أتوقّعه وذلك بسبب الظروف المادّية الصعبة التي كان أهلي في خِضَمّها. لكن الله سهّل الأمور والتحقتُ بالجامعة التي زادتني علماً وفخراً أكثر ممّا أعطتني ثقافةً، الأمر الذي ما زلتُ لا أفهم أسبابه حتّى الآن. لا يختلف إثنان في العالم العربي على أنّ الجامعة الأميركيّة تُعطي التلميذ “زوّادةً” كبيرة للحياة، لكنّي لم أشعر كذلك في حينها. كانت ثلاث سنواتٍ من الدراسة لا أنشطة فيها بسبب الحرب، وإذا حصل نشاطٌ ما، لم أكُن لأقدر على المشاركةَ فيه، إذ توجّب عليّ الانتهاء من دروسي والركض إلى بيوتِ تلاميذِ صغار السن أُعطيهم دروساً خصوصيّةً لكي أُوفّر شيئاً من المال أُسدّد منه ما استطعت من قسطي الجامعي. وقد وفّقني الله إلى الحصول على مساعدةٍ ماليّة غطّيتُ من خلالها القسم الآخر من القسط.

بعد التخرّج من الجامعة الأميركيّة عملتُ في المركز الرئيسي لأحد المصارف في منطقة الأشرفيّة، وكان إسمه Credit Bancaire الذي أصبح فيما بعد Credit Bank أي الاعتماد المصرفي.

في صيف الـ 1983 زُرتُ أقاربَ لي في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأمضيتُ معهم أياماً عدّة. في هذه الزيارة أقنعني إبنُ عمّي، وهو ابن خالتي أيضاً، بضرورة متابعة دراستي في أميركا، ففي لبنان حربٌ مستعرة ولا بأس بالابتعاد قليلاً. لم تكُن الحرب المندلعة عندنا سبباً مقنعاً لي لتركِ لبنان، لكنّ أوجاعاً في مناطق عدّة من جسمي سببها التوتّر هي التي دَفَعتني إلى اتّخاذ قرارٍ بضرورة الابتعاد قليلاً. لم تعنِ لي الغربةُ شيئاً في يومٍ من الأيام. كان قرار السفر موجعاً لي، ليس بسبب تركِ الأحبّة والأهل فحسب، بل بسبب قناعتي بأنّ الغربةَ ليست لي. في تشرين الأول من العام 1983، وصلتُ إلى أميركا وتسجّلتُ في برنامج الماجستير في إدارة الأعمال في جامعة سامفورد في مدينة برمنغهام وبدأتُ الدراسةَ. لم يكُن التأقلُم سهلاً مع الحياة الجديدة على الرغم من سكني في بيت أقاربي، عمّي وخالتي في آن، وعلى الرغم من معاملتهم لي معاملةً لا يمكنني أن أنسى لُطفها ما دُمتُ حيّاً.
أنهيتُ برنامج دراستي هناك في كانون الأول من العام 1984، وحجزتُ لي مقعداً على أول طائرة كانت ستصل إلى مطار بيروت، إذ في تلك الأيام كانت مواعيد إقلاع وهبوط الطائرات في مطار بيروت تتغيّر وفق مقتضيات الوضع الأمني.
بعد أسابيع قليلة على عودتي، بدأتُ العمل في شركة إندفكو، في دائرة الموارد البشريّة. إندفكو كانت، كما هي الآن، رائدة في مفاهيم العمل المتطوّرة وعلائق العمل المؤسّسيّة المحترفة. لكنّ مشواري مع إندفكو، وعلى الرغم من متعته وخبراته الجميلة، لم يدُم طويلاً إذ انتقلتُ بعد شهور ثمانية للعمل مع مؤسّسة تلفزةٍ أميركيّة لأبقى فيها حتى صيف العام 1991. أمضيتُ في العمل الإعلامي ست سنوات مَلَأتْها حوادث مأساويّة ناتجة عن حروبٍ بين أطرافٍ في المنطقة التي كُنتُ أعيش فيها. من بعدها كانت “حرب التحرير” في الـ 1989، ومن ثم الحرب المؤلمة بين القوات اللبنانيّة ووحداتٍ من الجيش اللبناني الذي كان الانقسام قد طاله في زمن “الحكومتين”. إذا تحدّثتُ عن الخبرات المهنيّة في تلك المرحلة، فهي لا تُعدُّ ولا تُحصى، لكنّي إذا أردتُ أن أسترجع في ذهني شريط البُعد الإنساني، فإنّي أرى نفسي حزيناً للغاية، إذْ إنّ مشاهد الحرائق والدمار والقتلى والجرحى والمستشفيات المكتظّة بالمُصابين واليأس على وجوه الناس ما زالت عالقةً في كياني.
في العام 1991، وكُنتُ قد تعبتُ من الحرب وويلاتها، ومن “الركض” على طرقات الخطر، قرّرتُ الانتقال إلى مهنةٍ أُخرى، وكان أمامي بابُ الجامعة اللبنانية الأميركيّة LAU مفتوحاً، حيث عيّنَني رئيس الجامعة آنذاك الدكتور رياض نصّار، مديراً للعلاقات العامة والقبول في حرم بيبلوس الجامعي. في الجامعة اللبنانية الأميركيّة، انتقلتُ إلى عالمٍ أكاديمي بطيء الحركةِ قياساً لسرعة الحركةِ في عالم الإعلام، لكنّه يتطلّب مهارات مختلفة كالتفكير النقدي والتفكير خارج العلبة والمألوف. تأقلمتُ بسرعةٍ مع العالم الجديد الذي تضمّنَ في ما تضمّنَه تعليمي لمادتين في حقل إدارة الأعمال لتلاميذ السنتين الأولى والثانية، وكانت هذه بحدِّ ذاتها خبرة رائعة. التواصل مع التلاميذ والعيش بينهم يعلّمُ المرء مسائل كثيرة ليس أقلّها حتميّة إعطاء حلولٍ شبه فوريّة لمشاكلهم مع الجامعة، أو ضرورة التنازل في مرات عدّة عن شيءٍ من “المسْمَرَة” في سبيل إيجاد حلٍّ يُرضي كلّ المعنيّين بمسألةٍ ما. من ضمن مهماتي الأساسية في الجامعة وخصوصاً في السنوات الستِّ الأولى مهمّتان أساسيّتان مترابطتان: الأولى تتمثّل في خلق شبكة علاقات واسعة للجامعة مع المدارس التي تحيط بحرم جبيل جغرافياً، وتلك الأبعد قليلاً جغرافيّاً، فيما تتمثّل الثانية بجعل الحرم الجبيلي منظوراً وموجوداً على خارطة الحضور الإعلامي في لبنان بالدرجة الأولى. في المهمّة الأولى، ساعدَتْني شخصيّتي المنفتِحة على الآخر والقدرة على التشبيك مع الناس، وفي المهمة الثانية، ساعدَتْني خبرتي الإعلاميّة السابقة. كانت سنوات الجامعة اللبنانية الأميركية سنوات مليئة بالحركة والخلق وإبداع الجديد والتفكير المتطوّر صعوداً، وكان الهمّ الأساس هو استقطاب تلاميذ إلى حرمٍ جامعيٍّ جديدٍ وبعيد جغرافيّاً عن العاصمة، وفي الوقت نفسه كلفة الدراسة فيه

I Work With

Private Schools

Public Schools

Congregations and NGOs

Universities

للإتصال بسمير